كما التزمنا، فعنوان اليوم هو استئناف للمقال السابق: "الإجهاض في المذهب المالكي، من مداخل ضبط مسالك النقاش"، إذ لم تسمح مساحته بالوقوف بالقدر الكافي على موقف الشيخ عليش المشار إليه عرضا في مقال الأستاذ سعد الدين العثماني "الإجهاض واستعجالية تعديل القانون الجنائي المغربي"، كملمح لتشدد فقهاء المالكية، على نحو ما ادعاه من خلال استشهاده فيه بابن جزي. لكن مع هذا سنضطر إلى ترحيل جزء من ظلال هذا العنوان إلى حلقة لاحقة، بما في ذلك تجاوبنا معه في شأن استعجالية تعديل القانون الجنائي، بعد الانتهاء من استكمال الاستدراك على موقفه من المذهب المالكي، واستكمال كشف الغطاء عن التنميط الأصولي لهذا الموضوع، في كلياته وتفاصيله. كل ذلك بغاية مقاربته بمعزل عن خلفيات السجال فيه.
وفي كل الأحوال تبقى مبادرة الأستاذ العثماني جديرة بالتنويه، فهي تحسب له، بصرف النظر عن الالتباسات التي يراد لها أن تحيط بمذهب البلاد، وبصرف النظر أيضا من توجساتي من مضمرات الإعمال الأصولي للترسيم القانوني، ونحن نستحضر جميعا ما حصل لديباجة دستور 2011. لقد كان له الفضل في اقتحام عقبة هذا النقاش على نهج أدب الحوار، وبتميز ملحوظ عن الأستاذين أحمد الريسوني ومصطفى بنحمزة، وبانعتاق بين من جلجلة صوت الأستاذ بنكيران الجارح. وهذا مبعث حسن ظني به، والباقي مجرد تفاصيل في رحلة البحث المضني عن القواسم المشتركة في مفترض العيش المشترك بمحدداته المذهبية والمؤسساتية.
الهجمة على المذهب المالكي تتخذ منحيين: الأول اتهامه بالبدعية، وبالتالي ضرورة "إعادة إدماجه في الشريعة الإسلامية"، كما تدعي إحدى الأطروحات. وإعادة الإدماج المدعاة لن تخرج عن فخاخ المذهبين الحنبلي والشافعي. أما المنحى الثاني فيقدمه على أنه مذهب متشدد غير قابل للتطور مع الحياة، لإفساح المجال للمذاهب الخارجية، ومنحها المشروعية كبديل عنه في إشباع حاجيات الناس في التجديد والتطور. وفي هذه الهجمة ضرب حتى للدور المحوري لأمير المؤمنين في المذهب المالكي كساهر أمين على المصالح العامة والنظام العام في البلاد، لإفساح المجال في المقابل، لمخططات الوصاية الأصولية على ضمير الأمة، مجتمعا ودولة.
فحديث الأصولية عن المذهب المالكي، تركبه هذه الحسابات، ومع ذلك أحسنا الظن بالأستاذ العثماني. لذلك فمقالي السابق كان مشبعا بهذا الهاجس، بالرغم من كون مهمة التوضيح ومحو الالتباسات هي مهمة مفترضة بالأصالة في المؤسسة الدينية، لكنها مع الأسف -وقد تم اختراقها بالكامل- منشغلة على قدم وساق، بمخطط إضعاف الدولة، وهدم مشروعيتها الدينية عروة عروة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أمام هذا التعطيل الطوعي لحواس الدولة، والذي لن يخدم في محصلته، إلا مخطط محاصرة "حداثة" صاحب الأمر.
لقد اعتمدت في هذا البيان منهجية: "السبر والتقسيم"، وهي منهجية مستوحاة من آليات أصول الفقه، أبانت عن نجاعتها في تفكيك المفاهيم وإعادة بنائها، كما هو شأن ابن خلدون مع موضوع "الإمامة"، أو كما فعلنا مع موضوع "الولي" في الزواج، أثناء النقاش الوطني حول الخطة الوطنية في إدماج المرأة في التنمية، وهي منهجية صالحة للتعاطي مع صيرورة المفاهيم على ضوء تطور حاجيات المجتمع، يمكن من خلالها منح المعنى لحديث المرحوم محمد عابد الجابري عن: "قراءة التراث بشكل يجعله معاصرا لنفسه، ومعاصرا لنا في آن واحد". وهي منهجية تمثل في نظري التجسيد الحي لمفهوم "السياق"، لم تتنبه إليها ندوة الرابطة المحمدية للعلماء سنة 2007 بعنوان: "أهمية اعتبار السياق في المجالات التشريعية، وصلته بسلامة العمل بالأحكام"، لكن مع ذلك ألفت عناية الأستاذ العثماني إلى الاسترشاد بهذه الندوة، لعلها تفيده في تنسيب رؤيته للأشياء.
لذلك ما قمنا به بالنسبة لما عزاه الأستاذ العثماني لابن جزي، فيدخل في مساق التفكيك. ولنحتفظ بالخلاصة التي انتهينا إليها إلى حين، وهي أن أقل ما يثبت به الحمل، تصير به الأمة أم ولد، فتمنع من البيع في حياة سيدها، كما تصبح حرة بعد وفاته. كما أن إعطاء أقل ما يثبت به الحمل صفة قتل النفس، إنما هو من أجل تمتيع الأم -وقد تم الاعتداء عليها- بدية الجنين. وبهذا يكون المذهب المالكي الأقرب إلى حماية حقوق المرأة من المذهبين الشافعي والحنبلي.
وسنواصل ذات مهمة البيان بالنسبة لإشارته لعليش، فنقول وبالله التوفيق: إن الأمر هنا يتعلق بفتوى، بدأ معها الموضوع يستقل بنفسه. ومستنده في ذلك، فتاوى البرزلي والونشريسي(..)، وبكل التناص الفقهي فيها، بما في ذالك ابن جزي.
سنورد جانبا من هذه الفتوى لوفائه بغرض الاستشهاد، إذ يقول الشيخ عليش بعد الحمدلة والتصلية: "لا يجوز استعمال دواء لمنع الحمل، وأما وضع شيء كخرقة في الفرج حال الجماع تمنع وصول الماء للرحم، فألحقه عبد الباقي بالعزل في الجواز بشرطه نقلا عن زروق(..). وإذا أمسك الرحم المني، فلا يجوز للزوجين ولا لأحدهما، ولا للسيد التسبب في إسقاطه، قبل التخلق على المشهور، ولا بعده اتفاقا. والتسبب في إسقاطه بعد نفخ الروح فيه، محرما إجماعا، وهو من قتل النفس. والتسبب في قطع النسل أو تقليله محرم. والمتسبب في إلقاء علقة فأعلى، عليه الغرة والأدب، سواء كان أما أو غيرها، إلا السيد في أمته فعليه الأدب فقط. قال البرزلي: وأما جعل ما يقطع الماء أو يبرد الرحم، فنص ابن العربي، أنه لا يجوز. وأما استخراج ما حصل من الماء في الرحم، فمذهب الجمهور منعه مطلقا. وأحفظ للخمي أنه يجوز قبل الأربعين، ما دام نطفة. كما له العزل ابتداء، والأول أظهر، إذ زعم بعضهم أنهم من الموءودة.."...
هذه الفتوى وقد أوردنا ربعها، تحبل بالإحالات، وينطبق عليها في التفكيك، خلاصة ما انتهينا إليه بالنسبة لابن جزي. ولإدراك قيمة هوامش المعنى في هذا الباب، لابد من الوقوف على بعض تخصيصاتها:
أ- حكم عليش بعدم جواز "إلقاء علقة فأعلى"، إنما يستند في "دليل الخطاب"، إلى ما أجازه اللخمي من استخراج ما حصل من الماء في الرحم قبل الأربعين ما دام نطفة.
ب- "قول ابن عمر: يكره إخراج المني من أم ولد، يحتمل مخالفة ما قاله ابن جزي من عدم الجواز، وموافقته بحمل عدم الجواز على الكراهة".
ج- "ظاهر كلام ابن ناجي والبرزلي، جريان قول الجمهور واللخمي في الزوجة مطلقا، والأمة ولو بشائبة، حيث لم يعزل عنها سيدها. وظاهرهما أيضا، ولو ماء زنا. وينبغي تقييده خصوصا إن خافت القتل بظهوره".
فهذه التخصيصات المضمرة في هذه الاستشهادات مفيدة في إدراك تعقيدات هذا الموضوع، ومخاض استقرار القول فيه، كالحسم في أجل نفخ الروح في الجنين، بالنظر إلى أدلة الحديث في هذا الباب، وأحكام موقع الأمة بين الزوج والسيد. ومع ذلك فنحن أمام صيغة أخرى لتشكل موضوع الإجهاض، لكنه في هذا المخاض مازال محكوما بسياقين من سوسيولوجية الفقه: الأول فعل السيد بالأمة حتى لا تصير أم ولد. فكان لابد من سد الذريعة في الباب. السياق الثاني فمرتبط بتجارة الإماء، حيث يبسط الونشريسي موقف ابن العربي في "حالة بعد قبض الرحم على المني، فلا يجوز لأحد حينئذ التعرض له بالقطع من التولد، كما يفعله سفلة التجار من سقي الخدم عند استمساك الرحم الأدوية التي ترخيه فيسيل المني منه فتنقطع الولادة". فكان لا بد أيضا من سد الذريعة.
لقد عرف الفقه بين هذين السياقين مخاضا، على طريق تشكل موضوع الإجهاض، يجب أخذه بعين الاعتبار، ينضاف في هذه الجينيالوجيا الفقهية، إلى سياق آخر في مسمى الوجود، مرتبط بدعوة تكثير النسل، للحفاظ على الوجود القبلي، في غياب الاستقرار الداخلي، وللحفاظ على وجود الأمة، في ظل التكالب الصليبي والاستعماري، ولعمارة الأرض، في ظل تحدي المجاعات والأوبئة. ولعل ملمح هذا السياق، في وجود الأمة، وعمارة الأرض، حاضر في خلفية رؤية الفقه المالكي بالغرب الإسلامي للموضوع. الأمر هنا على سبيل المثال، يشبه من وجه متطلبات إعمار أوروبا عقب الحرب العالمية الثانية، كما يشبه من وجه آخر متطلبات دعم الوجود الفلسطيني، أمام آلة الاجتثاث الإسرائيلي لهذا الوجود.
بهذا التنسيب لصيرورة الأحكام الفقهية في صيرورة تشكل موضوع الإجهاض، يمكننا بهذا التفكيك بجعله معاصرا لنفسه، إعادة بناء هذا الموضوع بجعله معاصرا لنا، على طريق الترسيم القانوني، بمعزل عن التأويل الفقهي وبالتوظيف الأصولي المصاحب له، متوسلين في ذلك بقواعد الفقه المالكي، ومقاصده في الملاءمة بين النص والواقع، وموقع الإمام في عمق متطلبات الاجتهاد، وبالمعنى والمبنى المطابقين لمتطلبات التنمية البشرية. فبهذه المقاربة النسقية، وبمدخل هذا المقال وما سبقه، نكون قد تحررنا في هذا الباب، من خلفية السجال مع الطرح الأصولي، لتأسيس بناء هذا الموضوع، في أفق ترسيمه خارج القانون الجنائي، وبمعجم يقارب "الإيقاف الطوعي للحمل"، على هدي من "المشروع المجتمعي الحداثي الديمقراطي"، لأمير المؤمنين. وهذا ما سنتولاه، تحت عنوان: "الإيقاف الطوعي للحمل، من تغيير المعنى إلى تغيير المبنى".