ثمة معادلة "فكرية"، أو بالأحرى لازمة "فكرية"، تتردّد على ألسنة قادة جماعة إيران، قوامها نقطتان: الأولى، الترحيب الشديد بالاتفاق الأميركي الإيراني حول النووي، اعتزاز بهذا الاعتراف العالمي "بمكانة إيران ودورها"، ونشوة كبيرة بها، هي التي "أحيت العزّة والاستقلال ودعمت خيارات شعوب المنطقة"؛ ذلك أن إيران هي "نواة المقاومة ضد العدوان الإسرائيلي والإرهاب التكفيري"... إلى ما هنالك من تهانٍ ذاتية، حفظنا عباراتها غيباً. أما النقطة الثانية، فهي بالعكس تماما، تعبّر عن تذمر واستياء واستهزاء بـ "العدوان على اليمن"، الذي تعدّه "خطأ سعودياً إستراتيجياً"، داعية إلى "ترك الشعب اليمني لخياراته"، متهمةً السعودية بـ "الفتنة المذهبية"، عارضةً عليها، بدل الحرب في اليمن، أن "تقصف إسرائيل نصرة للشعب الفلسطيني"، متهمة إياها بـ "التعاون مع إسرائيل المحتلة للأراضي الفلسطينية".. مع بقية الكلمات المحفوظة.
هذه المعادلة طبيعية إلى حدّ بعيد؛ فجماعة إيران في كل المشرق العربي هم مخلوقات إيرانية، لا يمكنهم سوى التعبير، وبفظاظة فكرية مألوفة، عن نشوتهم بانتصارات إيران، مرجعيتهم، وبالتنديد بـ "العدوان" على اليمن، الذي هو حرب على نظرائهم الحوثيين، الميليشيات الشقيقة، حديثة العهد في اليمن، والتي لم تثبت قدميها في جذور اليمن كما فعل "حزب الله" في لبنان. كان يمكن لهذه الجماعة أن تعبر عن فرحتها واستيائها بشيء من الاعتدال، ولكن لا! أبتْ إلا أن يكونوا مثل كل جماعة تابعة، أكثر ملكية من الملك.
أقول إنه من الطبيعي أن لا ينقلب جماعة إيران لحظة "انتصار" مرجعيتهم الإيرانية، فيصبحوا مثلا دعاة استقلال عربي أو قطري عن إيران؛ بالعكس، هم ربما جاهدوا وتعبوا وأرسلوا الكثيرين إلى الموت، من أجل تلك اللحظة الخالدة في تاريخ امتنا. وهم، في فرحتهم هذه، اختل ذكاؤهم، أو أنهم بالغوا في عدم تقدير ذكاء الصاغين إليهم. فكانت مشكلات ذهنية كثيرة تعتري معادلتهم "الفكرية" هذه: غيب المهلِّلون بالانتصار الإيراني فحوى الاتفاق الأميركي الإيراني النووي؛ لم يذكروا، ولو على سبيل القليل من الأمانة، أن الاتفاق هذا يدور حول محورين، لا ثالث لهما: رفع كافة العقوبات الاقتصادية عن إيران، مقابل تأجيل أو تجميد، ليس معروفا بالدقة بعد، القدرة على صناعة القنبلة النووية الإيرانية. لم يتعب الأميركيون والإيرانيون خلال الأشهر الطويلة من مفاوضاتهم الماراتونية، من أجل محاربة الإرهاب، ولا إسرائيل، ولا خياراتنا الوطنية. ولولا مصلحتهما الشديدة في التلاقي والاتفاق، لما نجحا بالتوصل إليهما. ما يفترض بأن إيران اقتربت من أميركا، وأن إسرائيل بات موضوعها مختلفا، إذ ترى هذا التقارب بعين الغيرة الإستراتيجية؛ فـ"مشروع المقاومة" الإيراني، كما فهمنا من القليل مما تسرّب من هذه المفاوضات، هو تقرّبه من أميركا، منافسةً لإسرائيل، من دون التطرّق، ولو بإشارة واحدة متواضعة، إلى تحررنا نحن، أو كرامتنا.
بالمقابل، بعد هذا الانتصار الإيراني التاريخي، سليل "الانتصار التاريخي الإستراتيجي..." لعام 2006. تريد جماعة إيران أن نكتّف أيادينا، وننتظر المزيد من الجموح الإيراني للهيمنة علينا، عبر ميليشيات مذهبية مؤطّرة ومنظّمة. يريدون أن يكون هذا "العجز العربي" أبديا، محْكما، بحيث لا تقوم لنا قائمة في أي أفق، منظور وغير منظور: فبدل هذه الوثبة السعودية ضد إحدى الميليشيات الإيرانية، التي ذكرتنا بأننا أمة مهدّدة بأمنها وما تبقى من سيادتها، وبعد الانتصار الإيراني على الجميع... كان عليها، أي السعودية، أن تشن هجوماً على إسرائيل؛ أي تدعم الاتفاق النووي الأميركي الإيراني، أولا، ثم تترك حدودها وممراتها الإستراتيجية سائبة، تقصف إسرائيل بالصواريخ: أي أن يأتي التهديد من حدود السعودية في الجنوب، فيكون ردّها بضرب العدو الإسرائيلي في الشمال؛ كأننا بصدد مثل فيلم كارتون... رسوم متحركة.
"إنتصر" الإيرانيون في الاتفاق النووي، ولم يعطوا الفلسطينيين، الذين حُملت عل أكتافهم مهام تمكينهم في منطقتنا، ولا حتى لفتة شكر وامتنان على هذا "التعتيل"... وحده أوباما، رأس حربة الامبريالية، تكلم عنهم، فقال في معرض مساجلته نتنياهو حول هذا الاتفاق مع إيران: "كنت دائماً أؤمن بضرورة إيجاد وسيلة للعيش بسلام جنباً إلى جنب مع الفلسطينيين... لا بد علينا أن نعترف بشرعية مطالبهم وبأن هذه الأرض وهذه المنطقة هي أرضهم ومنطقتهم أيضاً.عليها (إسرائيل) أن تعترف بشرعية مطالبهم، وبأن هذه الأرض أرضهم" (مقابلة مع توماس فريدمن في "نيويورك تايمز").
إنه مسمار في ذكاء جماعة إيران وفي أخلاقياتهم السياسية... ومن الذي دَقّه؟ رئيس الإمبريالية الأميركية، صاحبة العلاقة "العضوية" بالصهيونية...
(عن جريدة "المدن" الإلكترونية اللبنانية)