عنوان اليوم هو تعديل لطبيعة تلقي مداخلتي في ندوة "الدين والمجتمع"، التي نظمها "الاتحاد الاشتراكي" في 14/12/2013، والمنشورة في منبر حزب القوات الشعبية 23/12/2013 تحت عنوان: "الديمقراطية والحداثة، في ضرورة فصل الدين عن السياسة"، على نحو تلقي "أخبار اليوم" لها، وهي تخصص لتغطية هذه الندوة –انطلاقا من رجع الصدى لهذه المداخلة- العنوان التالي بأعلى الصفحة الأولى17/12/2013: "مخاوف الحداثيين من احتمال تحالف القصر مع الإسلاميين". كما خصص لذلك مدير نشرها الزميل توفيق بوعشرين افتتاحية بعنوان: "من هم حلفاء الملكية؛ الأصوليون أم الحداثيون" 20/12/2013.
ويستند عنوان اليوم في نحته وبهذا الاستدراك على "أخبار اليوم" إلى السؤال التالي، من بين تساؤلات أخرى جاءت في مفتتح هذه المداخلة: "هل المرجعية الناظمة، المتمثلة في إمارة المؤمنين، مستوعبة في هياكلها ووظائفها لمختلف مشارب المغاربة والتراكم الحضاري للمغرب؟ أم يراد لها اصطفافات ضد القوى الديمقراطية؟ بعبارة أخرى: هل هذه المرجعية محكمة الصلات بالثوابت المذهبية وآل البيت والزوايا والقوى الحية؟ أم يراد لها تجفيف ينابيعها للانفراد برأس الدولة بمعزل عن روافد المشروعية الدينية والتاريخية والديمقراطية؟".
وختمنا تلك المداخلة بتساؤل مهرنا على ضوئه واقع تسوية مسكوت عنها: "أيهما أجدى لمستقبل البلاد: ملكية برلمانية مع مرجعية حصرية في الشأن الديني لأمير المؤمنين؟ أم ملكية تنفيذية مع التدبير المفوض للأصولية في الحقل الديني؟ لعل في استنكاف السيد رئيس الحكومة عن التأويل الديمقراطي للدستور، ملمحا لوضع ليس له بالضرورة الجدوى المأمولة، أمام واقع هذه المقايضة/ التسوية، التي سيتعثر معها كل من الإصلاح السياسي والديني".
إنها تساؤلات يمليها الوعي بما مثله درس الأستاذ التوفيق المحتفي بمقدم "الحكومة الملتحية"، من نوايا انقلابية على آصرة التعاقد الوثقى في العهد الجديد. وهي نوايا تنهل من نزوع الوصاية على المشرب الحداثي للملك، برهان يرى أن من يحسم الصراع هو من يملك الملك. ولعل في صيرورة هذا المخطط، اعتداء الأستاذ أحمد الريسوني على أهلية أمير المؤمنين، والهزات الارتدادية لهذا الاعتداء من الموقع الرسمي الديني. لذاك فتساؤلاتنا وبهذا الوعي، يملي عنوان اليوم، باستدراكه ونحته، كخيط ناظم لثلاث دوائر:
1- تساؤلاتنا أعلاه، كانت في شهر صفر، ولم يتأخر الرد، إذ تمت في ربيع الأول تلاوة آيات الحاكمية، في حضرة أمير المؤمنين بمناسبة المولد النبوي الشريف، استعجالا من الأستاذ التوفيق، للرد من الموقع الأصولي، على الكاتب الأول لحزب القوات الشعبية، للجم أي تشوف من صاحب الأمر لتليين مفاصل الاجتهاد في مسألة الميراث، لقد حسم السيد الوزير في الموضوع، بادعاء استنفاد الاجتهاد في التشريع. وقد أشرنا، ومن منطلق المسؤولية، لمخاطر هذا الإرضاء الواعي للأصولية على النسيج المذهبي والاجتماعي وبنية الدولة في المغرب، ضمن ثلاث حلقات بـ "الأحداث المغربية" في فبراير 2014 .
رسالة "الحاكمية" للوجود السياسي والحقوقي في البلاد، تنضاف ومن حضرة المقام، إلى رسالة الدرس الرمضاني للأستاذ التوفيق، الذي نشرت متنه الكامل "الاتحاد الاشتراكي" 27/7/2012، تحت عنوان: "التوفيق يقدم أطروحة الدولة حول الصراع الديني والسياسي في المغرب الراهن". حيث منح الأصولية -وقد اعتبرها من أصحاب الهوية الخائفين على الدين- الوصاية الرسمية على ضمير الأمة. كما قزم في درسه من مشمولات إمارة المؤمنين؛ وهو يعتبر أصحاب الحداثة من الخائفين من الدين، حيث أقصى بهذا التوصيف، الصف الوطني الديمقراطي منها. وقد ذهب الزميل عبد الكبير اخشيشن في تحليله لمعادلة هذا الدرس إلى القول (في مقاله: "أمام مسارات قتل الحداثة وموت الإديولوجيا، أي أفق لهيكلة الحقل الديني؟" المنشور بـ "الأحداث المغربية" 5/1/2013): "وبهذا يكون درس التوفيق -وهو يعبر عن صفقة بين القوى المحافظة وحزب رئيس الحكومة- يمثل إحراجا كبيرا لحديث جلالة الملك عن المشروع المجتمعي الحداثي الديمقراطي.(..) إن درس التوفيق لا يمثل أطروحة الدولة، بل يمثل أطروحة القوى المحافظة داخل بنيتها، تغازل على الملأ مقدم الأصولية إلى الحكم على حساب الحقيقة والتاريخ". وتساءلت في مداخلتي المشار إليها آنفا: "فهل نفهم، لماذا هناك سعي حثيث لعزل أمير المؤمنين عن القوى الديمقراطية في البلاد؟ إن موقف التوفيق من الحداثة، قد غذى بعد ذلك حملة بعض المحسوبين على المؤسسة العلمية ضد القيم الكونية. فما هي أهداف الأستاذ التوفيق في التنظير/الانزلاق الرسمي لنهج الفتنة وتحجيم إمارة المؤمنين؟". إن الأمر لا يتعلق بكبوة جواد، بل بمخطط يواصل ما بدأه الأستاذ المدغري من جعل حقل إمارة المؤمنين حاضنة رسمية للخوارج.
2- في أربعينية المرحوم الدكتور حسين الإدريسي بوجدة، كانت لي كلمة نشرتها "الأحداث المغربية" 14/12/2013، بعنوان: "رحيل الحسين الإدريسي.. مقام الشهادة في محراب وطن"، مما جاء فيها: "وأنا في لحظة تأمل بهذا الاستبطان، بقي في النفس شيء ترسمه في هذا البوح ثلاثة غيابات، وهذا مدعى العتب لدي، لأنه جزء من محنة المثقف في هذا البلد الأمين: * تجاهل مخالفيه لحدث وفاته (..). * تراخي القوى الوطنية والديمقراطية في احتضان هذا الحدث (..). * تجاهل الجانب الرسمي لهذا الحدث". وهذا الغياب الرسمي لمناسبته هنا، نواصل فيه الاستشهاد بدون حذف: "وهنا نتساءل: ألا يفرض التزام المرحوم بالمعارك الحقيقية للبلاد أن يكون لهذا الوطن عنوان؟ أين معنى وفاء الوطن لأبنائه البررة، وقد أفضوا إلى ما قدموا احتسابا لوجه الله؟ مطلب الوفاء لأبناء الوطن، بالنسبة لحالة الشريف سيدي الحسين الإدريسي، هو على الأقل من باب تربية النشء على معانقة معنى حب الوطن ليس إلا. نحن نعلم أن موازين القوى مختلة لصالح خصوم الإصلاح وأن الصوت الأصولي جارح، لكن ما نظن أن ذلك سيكون على حساب المبادئ الناظمة للعيش المشترك، وأنه سيصل، حد ابتزاز الدولة في التعبير عن معنى الوفاء لأبناء الوطن المخلصين. لا نملك إلا أن نقول طوبى للغرباء في وطنهم أحياء وأمواتا. فهذا التجاهل يشي بأن مخطط فصل إمارة المؤمنين عن القوى الديمقراطية قد بدأت تظهر ثماره، لكن إصرارنا على هذا الحضور سيربك إلى حد ما هذا المخطط الأصولي".
للتذكير على ضوء هذه الخاتمة أن قبولي بالاشتغال في الحقل الديني كان ينبع من ضرورة استيعاب إمارة المؤمنين لمكونات الصف الوطني الديمقراطي، وللتذكير أيضا فالمرحوم الإدريسي، وهو الذي التقط الدلالة التاريخية لزيارة أمير المؤمنين لمالي، في "الأحداث المغربية" و"الوطن الآن"، قبل أن يغادرنا إلى دار البقاء، رحمة الله عليه.
3- نشرت "السبيل" 1/10/2014 عنوانا على أعلى صفحتها الأولى: "استقالة المرابط، والصراع بين العلمانيين والإسلاميين على الشأن الديني"، أطرت به "كلمة العدد" بالصفحة الثانية. وبصرف النظر عن ورود الذات في الموضوع، فإن هذه القراءة السلفية/الوهابية، وبمعجمها التكفيري لهذه الاستقالة، جديرة بمتابعة مختلف الفاعلين من دولة وقوى ديمقراطية ومكون صوفي. أما فيما يخصني الآن، فهو الوقوف على عنوان هذه الكلمة، لتجاوز مغالطة معادلتها. لذلك لابد من الإشارة إلى أن الحركة الأصولية وهي تمارس السياسة في الدين، والدين في السياسة، تسعى بكل الوسائل إلى احتكار وظيفة إمارة المؤمنين، والانقلاب على الدولة في هذا الباب، أما القوى الوطنية الديمقراطية، فهي بحكم موقع مطلب الفصل بين الدين والسياسة، منخرطة في مهام دعم المشروعية الدينية والتاريخية لوظائف إمارة المؤمنين في التجديد والإصلاح. فليس لديها أي هاجس في ظل هذا الانشغال لمزاحمة صاحب الأمر أو احتكار وظيفته الدينية أو الوصاية على ضمير الأمة. فالفرق واضح بين الانشغال بصيرورة دمقرطة الدولة والمجتمع، وبين مخطط أسلمتهما.
وهذا البيان ضروري لتصحيح النظر للفهم الديمقراطي للدين، إذ يمنح هذا الفهم، المعنى المطابق لوظيفة إمارة المؤمنين الجامعة لمختلف مشارب المغاربة، والمجسدة لمعنى السلطان على الأفئدة والعقول.
ما نود تجريده من هذه الدوائر الثلاثة، أن مخطط الانفراد برأس الدولة لإجهاض مشروع ميجي مغرب الغد، له تعبيرات منها بعض السياسات العمومية التي تصب محصلتها في خانة إضعاف مناعة المجتمع والدولة، واعتماد الدسائس والأراجيف، وحتى الفوضى الخلاقة في الحقل الديني تندرج ضمن هذا المخطط، بما في ذلك بلورة إحساس خاطئ بنقص في المشروعية الدينية يتم استكماله من خلال مغازلة الأصولية وتقمص دور التشدد واستعارة معجمها وشخوصها، لدفع الأمور في النهاية إلى مصب التدبير المفوض للأصولية في الحقل الديني.
لقد جربت الدولة في العهد السابق التوظيف الأصولي لمناهضة القوى الديمقراطية، فكان للذكرى والاعتبار ما كان. وصدقنا أن العهد الجديد يجُب ما قبله. لكن الخروج عن المنهجية الديمقراطية عقب استحقاقات 2002، كان ينبئ بأن مخاض الإصلاح طويل وعسير. ما أخشاه في غياب الحسم في الوقت المناسب، أن نجد أنفسنا نستسلم للنكوص والظلام، ونحن نردد فيما يشبه العزاء، ما انتهى إليه السلطان مولاي عبد الحفيظ بقوله: "داء العطب قديم"!