وقفت في مقالي الأسبوع الماضي، "الدولة والمشروع، من المهدي بن تومرت إلى محمد بن الحسن"، على تعبير المرحوم محمد عابد الجابري سنة 2003 عن "أمل المغاربة جميعا في أن يكون هذا الملك الشاب هو ميجي مغرب الغد. وهذا دوره التاريخي". وهذا التعبير وبهذه الحدوس في الملك الشاب، يحيلنا على فراسة سيدي عبد الله بن علي بن طاهر الشريف الحسني السجلماسي قبل أربعة قرون، في "مولانا الشريف" لما كان صبيا لم يدرك الحُلم، حين جاء في جملة أشراف سجلماسة لزيارته، فضمه إليه بعد أن سأل عنه، "ونظر إليه نظرة ربانية أمده فيها بسر الخصوصية الإلهية وأودع فيه بسببها نور الخلافة، وقال مرحبا بولد سيد الشرفاء، ولم يزده على هذه الكلمة. ومن يومئذ لمح الناس مولاي الشريف بالخصوصية التي أودع الله فيه، بسبب نظرة هذا الولي المبارك إليه، فظهر ذلك في عقبه الكرام نفعنا الله بهم آمين".
لعل هذا الارتقاء من الصبا إلى الشباب، ومن من منشأ الدولة إلى استمراريتها، وبهذه الفراسة والحدوس، وبلغة الإشارة وباقتضاب، يطرح مسؤوليات مشتركة ليعم النفع بهذه "المناقب"؛ فهذه الفراسة في صبي لم يبلغ الحلم من المشرب الشاذلي، في قيام دولة الأشراف العلويين، تطرح من باب الوفاء اليوم، ما قاله سيدي عبد الله الغزواني: "كل وارث لا يرث إلا مشرب إمامه". وهذه الحدوس في شاب من المشرب الوطني الديمقراطي، في استمرارية الدولة من موقع قيادة الإصلاح، تطرح من باب الوفاء، الانتصار للانشغالات الجوهرية من قبيل تساؤل الأستاذ الجابري: "هل يمكن القيام بإصلاح بغير مصلحين؟ هل يمكن القيام بنهضة بغير عقل ناهض؟ وهل يمكن إقامة الديمقراطية بدون ديمقراطيين؟"، ومن قبيل الجواب الحاسم لعاهل البلاد: "لا ديمقراطية بدون ديمقراطيين".
هذا الربط بين الماضي والحاضر ضروري للإمساك ببوصلة التاريخ، فشهادة الجابري (الملك الشاب هو ميجي مغرب الغد) وقد منحها مسحة الأمل (أمل المغاربة جميعا)، كما منحها سمو التجريد الفكري (هذا دوره التاريخي)، تطرح مهام تحصين هذه الشهادة، وهي منبثقة من وجدان مفكر وطني علق آمالا كبرى، بأبحاثه العديدة على نهضة بلاده، وجسد هذه الآمال في النهاية - لله دره- في شخص عاهل البلاد. ولم يتأثر المرحوم الجابري في هذه الشهادة بمسألة الخروج عن "المنهجية الديمقراطية". ولم يتأثر حتى حزب "القوات الشعبية" بهذا الخروج، وهو يعقد مؤتمره السابع تحت شعار: "معا مع جلالة الملك من أجل بناء مغرب حديث". ولعل في هذا النهج الوطني الواضح درسا لمن لا يعرف اليوم، في "امتهان" السياسة إلا الابتزاز.
وينتصب في أولى مهام تحصين شهادة المرحوم الجابري، ما قاله الأخ الأستاذ سي محمد الساسي في حواره/ الحدث، في "الاتحاد الاشتراكي" 7/8/1999 (كان قد أجراه الزميل عبد الرحيم أريري حول فكرة يجملها التساؤل التالي: "من سيقوم بتحديث من؟ هل اليسار المغربي هو الذي سيقوم بتحديث المؤسسة الملكية؟ أم على العكس انقلبت الأدوار وأصبحت الملكية مؤهلة أكثر لتحديث اليسار؟")؛ حيث جاء فيه: "إن من يحب ملكه عليه أن يقول له الحقيقة كاملة". ويندرج في قول الحقيقة أو الإخلاص في النصيحة، جملة أمور في طليعتها، تغليب الرؤية الإستراتيجية في بناء منطق الدولة الحديثة. لذلك نستشعر مخاطر المساس بمصداقية التزامات الملك المعلنة، وفي صدارتها "المشروع المجتمعي الحداثي الديمقراطي"، لأن من شأن هذا المساس أن يعيدنا إلى الوراء. لذلك نقدم دعوة جماعية لتأمل أدائنا الجمعي، حفاظا على زخم بدأنا نحس بتراجع منسوبه في الذاكرة والأوصال، والبادئ أكرم.
لقد تعرض المشروع المجتمعي الحداثي الديمقراطي، لمناهضة ممنهجة، استُحضر فيها تلازم استهداف التحديث المؤسساتي والتجديد الديني، وتمت هذه المناهضة من داخل النسق الرسمي، سياسيا ودينيا، وبتحالفات خارج هذا النسق. سنقتصر اليوم على المدخل السياسي في هذه المناهضة، على أن نعود لاحقا للمدخل الديني في ذلك، لاستكمال عناصر الرؤية الشمولية في هذا الباب.
يستوجب منطق استحضار السياق العام، لمقاربة هذا المدخل، التذكير بأن المرجعية السياسية للمغرب المعاصر يمثلها ميثاق "ثورة الملك والشعب"، والتي عبرنا عن الأمل في العهد الجديد بأن تبقى هذه الثورة متجددة. فهذا الميثاق يعني "الشراكة السياسية" في الحكم. لكن نزوع الاستبداد سيلغي هذه المرجعية من خلال انقلاب ماي 1960، على حكومة المرحوم عبد الله إبراهيم، فدخل المغرب سنوات الرصاص، حتى كاد أن يصاب بالسكتة القلبية.
حوار سي محمد الساسي المشار إليه آنفا جدير بقراءة سياقه وما ترتب عنه. لكن ما هو في حكم المؤكد أن اتجاها في الحكم وبقياسات مغلوطة، ارتأى وبخطأ في التقدير السياسي، "التخلص" ممن قد يمثل عرقلة في العهد الجديد، قياسا على الإزعاج الذي مثله في العهد السابق، فكان الخروج عن "المنهجية الديمقراطية" عقب الاستحقاقات التشريعية لسنة 2002، بإبعاد الأستاذ المجاهد سي عبد الرحمان اليوسفي من قيادة مرحلة "التناوب"، بعد تجربة "التناوب التوافقي". فشكل هذا الخروج عن هذه المنهجية، أولى الضربات للمشروع الإصلاحي لميجي مغرب الغد، لتتوالى الضربات لهذا المشروع -حتى من قبل هذا الخروج، كتداعيات رسمية لحوار الأستاذ الساسي- وقد تم ضرب أكبر نقابة وأكبر حزب، شكلا إسمنتا للنسيج الاجتماعي والسياسي المنتج في البلاد.
هذا الفراغ بفعل المساس بتماسك الجبهة الداخلية، وحق الحلم في الإصلاح المتدرج، حتى صار "البغاث بأرضنا يستنسر"، فتسللت أصوات ومواقف النكوص في الداخل وأصبح لها كامل العز والصولة. كما غذى مطالب الغرب لفرض أجندته الخارجية على المغرب، إذ تم الضغط على المغرب لحمل ما أسميه ب "أصولية المخزن" إلى الحكم سنة 2007، لكن صناديق الاقتراع واجهت هذه الضغوط، لتصنع الهندسة الأمريكية بعد ذلك، ما سمي ب "الربيع العربي"، الذي سيوصل الأصوليات إلى حكم صناديق الاقتراع وحتى مقام الخلافة كيفما اتفق، في سياق رسم خريطة لشرق أوسطي جديد معمد بالدم.
في مساق هذه الهندسة جاءت "أصولية المخزن" إلى الحكم سنة 2011، لتنقلب عليه برفع شعار مواجهة "الدولة العميقة"، بعد المساس بعبق مفهوم التداول السياسي للحكم، والذي لا يخرج في وعي السيد رئيس الحكومة عن حقه في "التبوريدة" على المغاربة وممثليهم، لإنتاج دورة أخرى من الاستبداد السياسي، بما في ذلك التدخل/التحكم في الحياة الداخلية للمنظمات السياسية، والحال أن المغاربة قدموا تضحيات كبرى لعلهم ينعمون بفضائل التداول السياسي للحكم، لكن حتى الانكسارات في المسار الديمقراطي التي تنبثق من صناديق الاقتراع، يعالجها حتما نفس التفويض الشعبي، وهذا من مبعث الاطمئنان على المستقبل.
إن حديث إخوان الأستاذ بنكيران عن "الدولة العميقة"، وهو مفهوم لا يمكن حمله على "عفاريت" كبيرهم، ولا على الوعي الشقي لجاهليته الكبرى، بل يمثل في العمق تعبيرا عن نوايا استهداف الدولة المغربية بثوابتها المذهبية، ومشروعها المجتمعي الحداثي الديمقراطي. كيف ذلك؟
لقد استنسخ "إخوان" المغرب مفهوم "الدولة العميقة" من إخوان تونس. وهؤلاء استنسخوه من إخوان تركيا، وباستعمال خارج دلالته في الأدبيات السياسية، لتصطف خلفه نوايا اجتثاث علمانية أتاتورك وبورقيبة، وهو ما يطرح تساؤلات جدية حول دواعي إسقاطه على الحالة المغربية، بالرغم من خصوصياتها الدينية والسياسية.
إخوان الأستاذ بنكيران يمثلون وبالتواضع المطلوب -تفاديا للمزايدات- "أصولية المخزن"، والأصولية عموما تكرس حسب تعبير الأستاذ سي محمد الساسي "الاستبداد والتخلف". وبهذا المعنى فهم يمثلون الدولة العميقة التي ينبغي إصلاحها. فعوض ممارسة فضيلة النقد الذاتي، أو استلهام "عارضة الأحوذي، في النهج المحمدي" للحد من جموح إخوانه، أو بعبارة أكثر نحتا، لتبصيرهم بحقائق المغرب وحقائق التطلعات المشروعة في ظل المشروعية، وهذا دوره المرعي، وجدناه يغض الطرف عمن هو متعلق بجناح الهوس، بلعبة عوالم المفاهيم الملتبسة، بغاية استهداف الدولة المغربية بمرجعيتها الدينية والسياسية. بعبارة واحدة، إن "الدولة العميقة" في وعي حزب رئيس الحكومة، تأخذ في حسبانها اجتثاث مشروع ميجي مغرب الغد.
لذلك فاستعمال إخوان بنكيران لهذا المفهوم، لا يخرج في النهاية عن نهج الابتزاز بغاية مزيد السيطرة الدينية والسياسية والإدارية والاقتصادية، لضرب استمرارية إرادة الدولة في الإصلاح كما دشن الالتزام بذلك المرحوم الحسن الثاني من خلال التناوب التوافقي، لربط الآصرة بعهد أب الأمة، بعد قطيعة سنوات الرصاص؛ ف "الإنصاف والمصالحة" له رمزيته بمطلب التناوب الحقيقي، والذي يتجاوز فيها حدود جبر الضرر الفردي.
إن ما يحصل من تراجعات دينية وسياسية هو نتيجة طبيعية للخروج عن "المنهجية الديمقراطية"، وما تركه هذا الخروج من فراغ وإحباط. وهو ما أوصل الدولة -من زاوية تقديري الشخصي للأشياء- إلى حالة من الضعف تكاد تكون غير مسبوقة، تمردت فيه حتى المؤسسة الدينية، وقد أصبحت حاضنة رسمية حتى للطموح السياسي لإخوان الأستاذ بنكيران، فأضحت الدولة في وضع المستجدي لأي شيء يمكن أن يضفي عليها المشروعية الدينية، وهو ما زاد من أعباء الأجهزة الأمنية والإدارة الترابية لحماية استقرار البلاد وأمنها الروحي. كما زاد من جهة أخرى من حجم الآمال على رص الصفوف، وعلى رمز البلاد ليتدارك هذه الأمة قبل فوات الأوان، فالمؤسسة الدينية وهي الأم الحاضنة للخوارج، منشغلة بجعل الرضاعة من الوهابية والإخوان المسلمين رضاعة طبيعية. وهذا التطبيع الشامل مع هؤلاء الخوارج ضدا على ثوابت البلاد وتاريخها يمثل ما تبقى من إجهاض وظيفة إمارة المؤمنين،في انتظار الآتي!
لسائل أن يسأل بعد هذا: من يخزي حدوس الفيلسوف الجابري في ميجي مغرب الغد؟ الجواب: إنها الدولة العميقة للأستاذ بنكيران!