لا داعي لأن أذكر من جديد بأن الاختلاف الإيديولوجي مع المشروع الفكري لعبد الإله بنكيران وحزبه السياسي وحركته الدعوية أمر مرغوب ومطلوب وضروري، ولكن حقا هل كل من يختلف مع بنكيران وسياساته ومنهجه في السياسة على الوجه الأصح يمتلك مشروعا فكريا وسياسيا مختلف وواضح ومستعد للتضحية والنضال من أجل تحقيقه؟ أم أن الصراع مع حكومة عبدالإله بنكيران لحد الآن ليس سوى تصفية حسابات ضيقة وعدم اعتراف بهزيمة الأحزاب التقليدية في انتخابات 2011؟ لماذا يفضل البعض من سياسيينا معارضة عبدالإله بنكيران لأنه حائط قصير في السياسة المغربية، وبالتالي يسهل التشهير به وإحراجه للصدام مع المؤسسة الملكية بدعوى الحرص الشديد على تطبيق صلاحياته الدستورية؟
قد نختلف مع حصيلة عبدالإله بنكيران الحكومية من حيث ارتفاع المديونية الخارجية والتهاب الأسعار وتزايد معدل البطالة وتأخير إصدار القانون التنظيمي للأمازيغية وتعطيل مجموعة من القوانين التنظيمية الأخرى الميسرة لتطبيق الدستور وووو... هذه قضايا موضوعية يمكن مناقشتها كل واحدة على حدة، والمعارضة بسببها مشروعة وموضوعية، لكن ما أريد أن أناقشه في هذه المقالة هي الأخلاق السياسية لرئيس الحكومة عبدالإله بنكيران، ومنهجه في تدبير الشأن العام الحكومي.. فالرجل لم يستغل مقدرات الدولة لفائدة شخصه أو أسرته.. وهذه سابقة سياسية مغربية منذ استقلال المغرب إلى الآن، حيث له الجرأة السياسية والأخلاقية في التعبير عن ممتلكاته، وهي هزيلة جدا مقارنة مع بعض ممتلكات بوابي وشواش الإدارات العمومية، فما بالكم بمدرائها. معظم رؤساء الوزراء المغاربة سابقا كانوا من الطبقات الغنية المعروفة بالمغرب والتي أهلها نسبها الاجتماعي وقربها من السلطان، الحصول على منصب رئيس الوزراء، الذي كان يحصل بالتعيين، فيما عبد الإله بنكيران، وهو ابن الطبقات الشعبية، حصل على منصب رئيس الحكومة بجدارة واستحقاق ديمقراطي في انتخابات كان الكل يستعد أن يؤول فوزها لتحالف الثمانية.. لكن الرياح السياسية التي هبت في المغرب والمنطقة الإقليمية برمتها أتت بما لا تشتهيه سفن الأحزاب التقليدية التي تسبقها أسماؤها العائلية التي باتت معروفة لدى كل المغاربة، من كثرة تداولها وتناوبها اللاديمقراطي على الشأن العام.. عبدالإله بنكيران لم يضع أسماء عائلته ومريديه في مناصب المسؤولية الحكومية البرلمانية، حتى أن مدير ديوانه لم يكن سوى أستاذ سوسي متواضع، لا هو بصهر ولا بخليل.. فيما أحزاب أخرى وضعت أسماء الخليلات والصديقات والأصدقاء على لوائح الاستوزار واللوائح الوطنية للشباب والنساء.
قد يعترض علينا معترض ليقول بأن شخصية عبد الله إبراهيم رحمة الله عليه كانت قوية ووطنية وذات توجه تقدمي تحرري، ويقول معترض آخر بأن عبد الرحمان اليوسفي كان السباق إلى فتح الورش الإصلاحي المغربي.. قد تكون هذه الاعتراضات صحيحة بمنطق الإيديولوجيا ومنطق ثقافة الرجلين من حيث الانتماء اليساري التقدمي للأول والحقوقي العالمي للثاني.. لكن بمنطق السياسة والأخلاق السياسية دائما، فالرجلان عرفت مرحلتهما، وإن كانت مرحلة الراحل عبد الله ابراهيم قصيرة جدا، أقول عرفت انشقاقات أحزابهما وصراعات على المواقع والمناصب، واستغل النظام السياسي ذلك في كلتا الحالتين، فسهل عليه تنحيتهما بسلام وبطمأنينة وسهولة بالغة.. فقد أعفي عبد الرحمان اليوسفي أطال الله في عمره بطريقة مفاجئة، كان من المنتظر أن تهز المغرب، لأن تغييره بإدريس جطو كان تراجعا عن تعهدات التناوب الديموقراطي.. لكن الرجل تعرض لخيانة رفاقه الذين قايضوا عبد الرحمان اليوسفي بالحقائب الوزارية وبعضها كان فارغا، وربما حزب الاتحاد الاشتراكي ما زال يؤدي ضريبة خيانة بعض قياداته ومناضليه للرمز عبد الرحمان اليوسفي...
فلنعد لمقارنة هؤلاء الرفاق الخونة مع الاخوان الموصوفين بكل أوصاف الرجعية والظلامية والارتجالية السياسية، مباشرة بعد خروج شباط من الحكومة فرض حزب التجمع الوطني للأحرار شروطه للالتحاق بسفينة الحكومة مقابل الحصول على حقائب وزارية وازنة، ومنها الخارجية.. وانتظر الجميع رد فعل وزير الخارجية السابق سعد الدين العثماني وأنصاره.. بعد الاستغناء عن خدماته، كانت أولى تصريحات سعد الدين العثماني، هي تأكيده على وحدة الحزب وانضباطه لإكراهات التحالف.. ولم يبادر الدكتور سعد الدين إلى تأسيس حزب أو حركة تصحيحية أو تعكير الأجواء على رئيس الحكومة..
هذه الاخلاق السياسية هي ما تفتقده الساحة السياسية اليوم، حيث إن جميع انشقاقات الأحزاب المغربية كان بدوافع الاستوزار أو الإقصاء منه أو الصراع على الزعامة، ولم يكن بتاتا بفعل اختلاف البرامج أو التوجهات السياسية، ماعدا تجربة انشقاق الاتحاد الوطني للقوات الشعبية عن حزب الاستقلال في 1959 التي يمكن، بتحفظ شديد، أن نعتبرها تجربة انشقاقية لدوافع طبقية إيديولوجية.. ماعدا ذلك، فأحزاب كبرى تتفتت في صراعها على الغنيمة السياسية.. وكان من المنتظر أن تشهد التجربة الحكومية المغربية الحالية، بقيادة حزب العدالة والتنمية، تصدعات سياسية في صفوف الحزب الأغلبي، لكن التماسك الأخلاقي، وليس السياسي، كان واضحا، ووقى بنكيران وحكومته من الانشقاق والتصدع.. وهو لعمري درس رائع ومنفرد في الساحة السياسية المغربية.
أما من يتحدث عن أن عبد الإله بنكيران لم يستعمل صلاحياته الدستورية كرئيس للحكومة وترك المجال للمؤسسة الملكية لتجتاز مجاله الدستوري، فهذا المأخذ كان سيكون مشروعا وصحيحا ووجيها لو جاء من أفواه رجال يستطيعون مصارعة الملكية لو أتيحت لهم الفرصة لتبوؤ نفس المكان الذي فيه رئيس الحكومة اليوم.. أما وأن غالبية مطالبي بنكيران باستعمال صلاحياته الدستورية كاملة هم أنفسهم من قبل أن تعطى لهم لائحة الوزراء في ليلة القدر بدون الاطلاع عليها، أو قبلوا منصبا حكوميا صغيرا لم يدم طويلا، أو استفادوا من أموال المعطلين واشتروا الشقق بباريس واشتروا اللقاحات الفاسدة ووو... هؤلاء لا يعول عليهم لتنزيل الدستور، ولا يمكن أن يرفضوا أي طلب للمؤسسة الملكية، ولو كان منتميا إلى أبجديات الدستور القديم، إذا ما أعطيت لهم فرصة رئاسة الحكومة.
في نظري المتواضع ما يحتاج إليه المواطن المغربي للمصالحة مع السياسة هو الأخلاق السياسية الرفيعة، والاعتراف بالجميل، والرغبة في خدمة الوطن بإخلاص.. وربما المرة الأولى التي أشعر فيها بأن سياسيا مغربيا يذرف دمعا على حب الشعب وتوجسا من المسؤولية هي حين انهمرت الدموع الحقيقية على وجنتي بنكيران بصدق، حين بكى على رفيق عمره المرحوم عبد الله بها بإفران الأطلس الصغير.. وذلك عربون على أن الرجل له صديق احتفظ به حتى باغتته المنية وفرق بينهما القدر المحتوم... وهذه الصداقة تكاد تكون نادرة في المعاملة السياسية المغربية التي سمتها الانقلابية والمؤامرات.. فكم من صديق أمس أصبح خصما سياسيا عنيدا اليوم؟
وختما إن أمثال بنكيران لن ينهزموا بمن يذرف دموع التماسيح على شعبه ووطنه، بل بالدموع الحقيقية التي تأتي إليهم المسؤولية زاهدين فيها لها لا مطالبين لها بالليل والنهار بالطرق المعروفة.