اعتبارا للتناقض الصارخ بين ما تدعيه الحكومة من كونها تعمل لصالح الفقراء والمحتاجين وبين ما تتخذه من قرارات وما تقوم به من إجراءات - تنعكس سلبا على هؤلاء في ظروفهم المعيشية وحياتهم اليومية، حيث يُبرز واقع الحال استفحال معانة الفئات الهشة وتردي أوضاع أصحاب الدخل المحدود، بفعل الضربات الموجعة الموجهة لقدرتهم الشرائية من قبل حكومة، يقودها حزب يدعي أن مرجعيته إسلامية –اعتبارا لكل هذا، نرى أن هذه الحكومة ترتكب إثما مبينا وجرما بينا، مصداقا لقوله تعالى:"كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ".
ولا يحتاج المرء إلى ذكاء كبير كي يدرك أن الحكومة تقول شيئا وتفعل عكسه (أو تفعل شيئا وتدعي عكس ذلك). فسياستها مبنية على إرضاء، ليس الشعب المغربي، بل المؤسسات المالية الدولية التي تملي عليها ما تقوم به في المجال الاقتصادي والاجتماعي. ورغم المآسي الاجتماعية والإنسانية التي عرفتها البلدان التي انصاعت لتوجيهات هذه المؤسسات، فإن حكومتنا ماضية في سياستها اللاشعبية وفي إغراق البلاد بالمديونية الخارجية، متوهمة أن القروض التي تحصل عليها، هي عنوان على الثقة في سياستها وتدبيرها؛ وهو ما يشكل خطرا على مستقبل البلاد والعباد وتهديدا حقيقيا للسيادة الوطنية ولاستقلالية القرار الوطني. وما رفع الدعم عن المواد الأساسية، تنفيذا لتوجيهات صندوق النقد الدولي، إلا برهانا عن فشل الحكومة في إبداع الحلول الملائمة للملفات الصعبة. ويعتبر هذا القرار مخاطرة اقتصادية واجتماعية وسياسية غير محسوبة العواقب؛ إذ تشكل تهديدا حقيقيا للسلم الاجتماعي.
ومع ذلك، لا يجد مسؤولو حزب العدالة والتنمية ووزراءه حرجا في التبجح، وبأسلوب فيه كثير من العجرفة والتعالي، بشجاعة القرارات المتخذة في هذا الباب؛ والتي هي قرارات تفقيرية بامتياز. فحكومة العدالة والتنمية اختارت الحلول السهلة التي تفتقد إلى الإبداع والاجتهاد والشجاعة الحقيقية. فلم تجد من حلول إلا تلك التي يتضرر منها السواد الأعظم من المواطنين، وعلى رأسهم فئة الفقراء والمستضعفين؛ أي الحلقة الأضعف في المجتمع. ولذلك، نرى أن هذا العمل لا يستحق إلا الشجب والإدانة، خصوصا وأن الحكومة تقدمه على أنه إنجاز لفائدة الفقراء. وهذا الإصرار على تحسين القبيح والكذب على الناس بإيهامهم بأن شيئا ما ينجز لصالحهم، هو ما ذمَّه الله تعالى في الآية الكريمة التي سبق ذكرها ("كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ").
وكلمة "مقت" تعني، هنا، "الذنب العظيم" أو "الجرم الذي يوجب غضب الله". فكل ما تقوله الحكومة عن تحسين أوضاع الفقراء كذب وبهتان؛ ذلك، أن العكس هو الصحيح؛ إذ أن أحوال الناس المادية والاجتماعية تسوء يوما عن يوم بفعل الزيادات المتتالية في الأسعار وبسبب تدهور الأوضاع العامة المتسمة بتفاقم البطالة وتردي الخدمات واستفحال الفساد، من رشوة وغيرها. فالحكومة تقول، إذن ما لا تفعل؛ ولذلك يكبر مقتها عند الله. فهل هناك موجب لغضب الله أكبر من الاستقواء على الضعفاء ومجاملة الأقوياء؟ وهل هناك أفظع من أن تُفقِّر الفقير وتثقل كاهله بما لا طاقة له به وتغض الطرف عن الموسر وتتركه يفعل ما يريد؟...
قد ينخدع البسطاء ببعض الإجراءات البسيطة التي لا تسمن ولا تغني من جوع، كما سنبين ذلك؛ لكنها تُقدم على أنها إنجاز كبير لهذه الحكومة، وعين الحزب الأغبي وحلفائه ليس على الأثر الفعلي والحقيقي لتلك الإجراءات، بل على ما ستضمنه لهم من أصوات في الانتخابات المقبلة، بغض النظر عن استحقاق هذه الأصوات من عدمه.
ولنأخذ، كمثال، المساعدة المزمع تقديمها للأرامل، التي يطبل ويزمر لها الحزب الأغلبي. فرغم أن وزارة الداخلية هي المسؤولة عن العملية، فإن أتباع العدالة والتنمية لا يتورعون، حسب ما يتواتر من أخبار، عن استغلال المطبوع المعد لهذه العملية وترويجه سياسيا.
لكن، قبل الحديث عن محدودية هذه العملية وضعف مردوديتها، اقتصاديا واجتماعيا، ِلنُذَكِّر أن الحكومة رفعت الدعم عن صندوق المقاصة في إطار ما تسميه بالإصلاح الذي هو، في واقع الأمر، إفساد بكل معنى الكلمة؛ فالإصلاح يعني التحسين والتجويد وليس التردي والتقهقر. وصندوق المقاصة أحدث منذ السنوات الأولى للاستقلال لدعم المواد الأساسية قصد ضمان استقرار الأسعار، وبالتالي ضمان الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.
لقد سبق أن قلنا، في مقالات سابقة، بأن هذا الصندوق يحتاج، بالفعل، إلى إصلاح؛ لكن الإصلاح لا يعني الإعدام؛ ذلك أن في إعدامه تهديدا للاستقرار الاقتصادي والاجتماعي؛ خصوصا وأن مجتمعنا لا زال يعاني من هشاشة كبيرة في هذين المجالين. فرفع الدعم عن المواد الغذائية الأساسية وعن البترول الذي هو عصب الحياة الاقتصادية ودورتها، يعني ضرب القرة الشرائية للفئات العريضة من مجتمعنا.
ولهذا، لا نرى في المساعدة المزمع تقديمها للأرامل إلا أثرا محدودا جدا جدا؛ ذلك أن الهشاشة لا تعني الأرامل فقط (وحتى هذه الفئة، لن تخرجها إطلاقا، من الهشاشة، المساعدات الهزيلة المقررة)، بل تعني فئات واسعة من مجتمعنا، ومنها فئات عريضة كانت، إلى عهد قريب، مسحوبة على الطبقة الوسطى؛ لكنها اقتربت من عتبة الفقر بفعل الزيادات المتتالية في الأسعار؛ وستليها أخرى، لا محالة، بفعل سياسة الحكومة الحالية.
ويكبر مقت هذه الحكومة عند الله، لكون حزبها الأغلبي، بقيادة "الشيخ بنكيران"، يستغل الدين الإسلامي الحنيف لاستجداء أصوات البسطاء من الناس (البسطاء فكريا وثقافيا واجتماعيا)، دون خجل ولا وجل. ولا يجد حزب العدالة والتنمية حرجا في استغلال الفقر والحاجة لكسب الأصوات الانتخابية بالكذب والوعود البراقة والرشوة الانتخابية التي يغلفها بالعمليات الإحسانية؛ والإحسان منها براء. فعمل هذا الحزب وأعضائه (بمن فيهم أعضاء ذراعه الدعوي، حركة التوحيد والإصلاح) ليس لوجه الله، بل لوجه الصندوق الانتخابي. لكنهم يخدعون المغفلين (وحتى المؤمنين) بشعارات يُلبسونها رداء الإيمان والورع والتقوى والإحسان، في نفاق سياسي، لا شك أنه يجلب الأصوات؛ لكنه يجلب أيضا، حسب اعتقادي المتواضع، غضب الله بسبب استغلال الفقراء والمحتاجين، باسم الدين، للحصول على أصواتهم في الانتخابات، ثم يتنكرون لوعودهم والتزاماتهم، فيصدق في حقهم قوله تعالى: "كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ".
خلاصة القول، إن هذا الحكم الرباني هو ما يستحقه كل الذين يعملون على إقحام الدين (الذي يتسم بالقدسية) في السياسة (التي تعتبر فن الممكن) ويوظفونه، بمكر وخداع، لأغراض حزبية ضيقة. ويمثل حزب العدالة والتنمية نموذجا في هذا الباب؛ إذ لا يتردد في اتهام خصومه السياسيين بالمروق والإلحاد وغير ذلك من التهم التي تصب في طاحونة الاستبداد والتكفير. وآخر مثال على ذلك، بلاغ هذا الحزب الذي وزع في أكادير، متهما منظمي مسيرة 8 مارس بالرباط بالإلحاد والفساد.