"أن تكون شجاعا سياسيا، يعني أن تكون مؤمنا ومتشبعا ومستوعبا للسياق الذي تشتغل فيه، إن كنت من الأصالة، أو كافرا به وفي قلبك ذرة من الإيمان -وهي مهة جدا- إن كنت من المعاصرة" .
لا أحد من السياسيين الملتزمين والنبهاء، المحللين منهم أو الممارسين للشأن السياسي، يشك في النزوعات العرقية الإقصائية، والإيديولوجية، المحملة بنفس جهادي عميق، للهجوم الحاد الذي يشنه الجناح الغربي لحركة الإخوان المسلمين العالمية، على تجربة حزب الأصالة والمعاصرة، وعلى بعض قيادييها، خاصة المنحدرين منهم من المغرب العميق.
فالعارفون بالشأن السياسي المغربي يرفضون، بل يستهزؤون حتى من ربط هذا الهجوم بقرب الانتخابات الجماعية والجهوية التي ستعرفها بلادنا متم عطلة الصيف المقبلة. ذلك أن الصراع "التناحري" بين الطرفين يتجاوز كثيرا الرهانات الانتخابية، والصراع الانتخابي -الذي تمارسه الأحزاب السياسية الواضحة الإيديولوجية والمبتغيات في العالم-، إلى صراع يدافع فيه طرف على ضرورة تعميق التعدد وبناء الوطن الديمقراطي الذي يتسع للجميع، ضد طرف آخر، مرتبط بأجندات دولية، يريد تنميط الممارسة السياسية في أفق بناء دولة توتاليتارية قائمة على المرجعية الدينية، وتهدف إلى بناء دولة "الأمة". شأنه في ذلك شأن ما يبتغي كل الجهاديين -بجميع أصنافهم وتلاوينهم واختلاف طول لحاهم- بناءه في مناطق أخرى من العالم.
وقد زاد الأمر خطورة ركوب بعض "المثقفين" ممن تحملوا مسؤوليات إستراتيجية بالدولة -بوعي أو بدون وعي- على موجة هذا الصراع لتغليب كفة طرف ضد طرف آخر، في هذا الصراع المصيري، بتحريض الدولة، ليس ضد حزب الاصالة والمعاصرة فقط، بل تحريضها ضد منطقة بكاملها، وهي منطقة الريف التي ينحدر منها بعض قياديي هذه التجربة السياسية الهامة في التاريخ المعاصر لبلادنا. وفي هذا التحريض، دعوة الدولة للرجوع إلى أساليب "سنوات الرصاص" ضد ساكنة منطقة بعينها، وحنين إلى ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، الذي أدت معالجته الذكية -وبمنطق منهجية العدالة الانتقالية التي تم الاعتماد عليها لمعالجة هذه الانتهاكات- إلى بروز حزب "الأصالة والمعاصرة" كمؤسسة حزبية تبتغي تكثيف مطالب الانتقال إلى مرحلة ما بعد الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، ذلك أن كل التجارب المماثلة في العالم أدت إلى بروز أحزاب من مهامها تكثيف مطالب الانتقال السياسي من مرحلة الرأي الواحد والاستبداد إلى مرحلة التعدد المؤسساتي المقنن بوثيقة دستورية تجيب على ما انتهي إليه مسلسل المصالحة، وهو بالنتيجة إعطاء فرصة الممارسة السياسية بالشكل الحداثي لعدد من أبناء المناطق التي عانت من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وعدد من أبناء الطبقات المسحوقة التي تأثرت سلبا بهذه الانتهاكات. والأهم في التجربة المغربية، أن النقاش الذي أثاره مسلسل المصالحة أعطي الفرصة لعموم المواطنين للسؤال حول ماهية بعض الإطارات الحزبية، والبحث عن سياقات وطرق تورطها في ممارسات أدت إلى عدم انخراط البلاد في مسار البلدان الديمقراطية، رغم أنها كانت محيطة بتجارب ديمقراطية هامة جدا. وهو الأمر الذي لم تستسغه كثير من الأحزاب السياسية التي تناوبت في الهجوم على حزب الأصالة والمعاصرة، قبل أن ينتهي الأمر بهذه الأحزاب إلى تبني مقولة عدو عدوي صديق لي.
لماذا كل هذا التكالب على هذه التجربة السياسية الفتية؟ لماذا يتجاهل مثقفونا السياقات السياسية والحقوقية التي أفرزت التجربة؟ لفائدة من يتم التحريض ضد هذا الحزب؟ أليس كل هذا الهجوم محاولة لقطع طريق الممارسة السياسية -الحداثية الديمقراطية- أمام المنحدرين من مغرب الهامش، ومحاولة لقتل حزب "الانتقال" الذي أفرزته تجربة المصالحة والإنصاف على غرار جميع تجارب العالم؟ أين يلتقي القائل ب "الأصل التجاري الفاسد" لحزب الأصالة والمعاصرة، بالقائل بأن الحزب "بينة موازية للدولة"، وهل هذا اللقاء صدفة، أم تعبير عن ارادات موحدة بشكل ضمني لتقويض انتقال المغرب إلى مصاف الدول الديمقراطية، والتغطية على "البنية الموازية" الحقيقية؟
في ظرف أسبوع واحد خرج قياديون من الحزب الديني الذي يقود الحكومة المغربية حاليا، دون أن يتوفر على ذكاء كبير لإخفاء انتمائه الدولي، بالقول -مع النيل من ذكاء المغاربة بسابق إصرار- أن حزب الأصالة والمعاصرة "فشل في تقديم بديل ديمقراطي حقيقي كما أن خطابه يفتقد للمصداقية". دون أن ينسوا عادة التذكير بأن الذين حاولوا إحداث "الوقيعة" بين حزبهم والملك فشلوا، وأن حزبهم لا يتحمل أية مسؤولية -كيفما كانت- في الأحداث الدموية التي عرفها المغرب في السنوات الأخيرة. وعلى نفس المنوال، وبنفس النفس "الجهادي"، والاعتداد -خطأ- بالتوفر على أسلحة الوصول إلى يقين الأشياء، خرج السيد حسن أوريد -الذي لم يعلن إلى اليوم انتمائه إلا إلى فئة من مهامهم رؤية ما لا يرى، أي أصحاب بعد النظر- بالسؤال "ألم تنبثق بنية موازية في مرحلتها الجنينية مع الانتخابات الجماعية للعام 2009، ثم واصلت في الاتجاه نفسه مع الاستحقاقات الجهوية، لتبلغ أوجها بوصولها إلى أحد أكثر الملفات حساسية، وهو ملف الصحراء من خلال أحداث أكديم ايزيك؟". مضيفا سؤالا آخر يكشف أن الخروج لم يكن بريئا "ألم تولد بنية موازية، يمكن تعريفها من خلال عرّاب يعرف بكونه غريب عن الدولة، لكنه يتمتّع رغم ذلك بتأثير كبير داخل دواليبها؟". ليواصل مقاله التحريضي بتنبيه الدولة -على نفس منوال أهل العدالة و التنمية- "يبدو من الواضح أنه عاجلا أم آجلا، سيصبح الاصطدام بين البنية الموازية والدولة حتميا"، موجها التحية من برجه العاجي "لمن يجيد الإنصات"، وفي هذه التحية تحريض شديد ضد من أشار إليهم ، وضد المنطقة التي ينتمي إليها من أشار إليهم بقليل من الذكاء.
والحال أن المتتبعين النبهاء لمسار التحول السياسي -المغاربة منهم والأجانب- كانوا ينتظرون منذ الإعلان عن توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، خروج حزب سياسي "توافقي" إلى العلن من مهامه تكثيف توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، في شقها السياسي والحقوقي والمجتمعي، وجعلها "روح" ومرجع برنامجه السياسي، والبحث عن صيغ إقناع "الأجنحة المحافظة في الدولة" لتنفيذ ما تحفظت عنه، وجعل نفسه -أي الحزب- في موقع الضامن لتنفيذ "عقلاني" لهذه التوصيات بالصيغة التي تحافظ على بناء المغرب الذي يتسع للجميع..
ومن المؤكد أن الحزب لعب شيئا من هذه الأدوار بالرغم من الحصار عليه، والذي تناوب عنه أكثر من حزب، ولعل هذا ما جعل السيد حسن أوريد يقول إن هذه المؤسسة الحزبية "بنية موازية" للدولة، وتشكل خطورة عليها.. وفي هذا القول دليل على أنه لم يستوعب الإطار التاريخي الذي ولد فيه حزب الأصالة والمعاصرة، ولم يستوعب المهام المنوطة بمثل هذه الأحزاب في العالم.. وفي قلة الاستيعاب والفهم هذا يلتقي -جزئيا- مع القائلين ب "الأصل التجاري الفاسد" لحزب الأصالة والمعاصرة.
أليس عدم استيعاب "الإطار التاريخي" للأحداث الكبرى وكنهها العدو الأساسي لرجل السياسة؟ أليس هذا الاستيعاب هو الفرق بين رجل السياسية الإستراتيجي ورجل السياسية المستهلك الأحداث؟
أنا متأكد بعد هذه الخلاصات من خمسة أشياء:
الشيء الأول هو أنه إذا كان هناك -راهنا- من بنية موازية للدولة، بالشكل الذي تحدث بها السيد حسن أوريد، وتشكل خطورة حقيقية، وتنذر بالدخول في صراع بينها وبين الدولة، فهي -بالتأكيد- البنية السياسية التي تستغل الدين -بشكل بشع- في طروحاتها السياسية، وتؤمن بالديمقراطية "شكلا" ولا تؤمن بجوهرها، وتستغل ما تتسبب فيها أجنحتها الأكثر تطرفا لتخويف العالمين وابتزازهم لكي يستمروا في السلطة.
ومتأكد ثانيا، أن دور المثقف ليس هو تأليب الدولة على طرف سياسي لصالح أخر، بل أن دور المثقف هو استيعاب "كنه اللحظات السياسية المؤسسة للمستقبل"، ودفع الناس إلى استغلالها لما فيه صالح البناء الديمقراطي الذي هو الطريق الوحيد لحماية الدولة والمجتمع من قيام أية بنية موازية لها .
متيقن ثالثا، أن جل مثقفينا لم يستوعبوا كنه لحظة الإنصاف والمصالحة، ولم يتناولوها بالعمق الضروري، و لم يستوعبوا -عن جهل بمناهج العدالة الانتقالية- كيف يمكن لمسلسل المصالحة أن ينتهي إلى بروز حزب سياسي يكون من مهامه تكثيف مطالب الانتقال والمساهمة فيه. ولعل ما جعل الكثيرين منهم ينهالون عن تجربة الأصالة والمعاصرة بكثير من النقد ووصفه بالحزب المخزني.
متيقن ،رابعا، أن المعركة التي يجب أن يخوضها حزب الأصالة والمعاصرة -اليوم- هي العمل للعودة إلى أجواء ما بعد صدور توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، وتجاوز ما تسببته لنا أجواء "الربيع العربي" السيء الذكر من تخلف عن مسارنا الطبيعي لبناء الديمقراطية والمغرب المتسع للجميع.
ومتيقن خامسا، أن مناضلي الأصالة والمعاصرة ليسوا فقط من انخرطوا في بنياته الحزبية، واشتغلوا وأصابوا فيما أصابوا فيه، وأخطأوا فيما أخطأوا فيه، بل مناضلو الأصالة والمعاصرة هم كل الذين ساهموا في تجربة الإنصاف والمصالحة، واعتبروا أن ما سمي ب "الربيع العربي" ردة عن المسار السياسي الذي كان يجب أن تتبعه بلدان شمال أفريقيا و الشرق الأوسط لبناء الأوطان التي يجب أن تتسع للجميع.
ومعركة الحزب اليوم هي جمع كل هذه الطاقات -المتواجدة حتى في الأحزاب الوطنية الأخرى اليمينية واليسارية منها- لمواجهة "البنية الموازية" للدولة، وإنقاذها منها.. وهذه هي الشجاعة السياسية في نظري المتواضع.