يعتبر القضاء سلطة مستقلة طبقا لأحكام الباب السابع من دستور 2011 إلى جانب السلطتين التشريعية والتنفيذية، وهو أساس بناء دولة الحق والقانون، بل هو رمز من رموز سيادة الدولة.. وعليه، فبدون قضاء نزيه، حر ومستقل لا يمكن الحديث عن دولة الحق والقانون، العدالة الاجتماعية، التساوي في الحقوق والواجبات، كما لا يمكن الحديث عن الاستثمار والاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وانعكاسا لكل هذا وذاك على المجتمع.
والمغرب انخرط مند أكثر من عقدين في مسلسل من الإصلاحات تهم المجال القضائي، وترمي إلى إرساء مجتمع ديمقراطي حداثي تصان فيه كرامة الإنسان.. ولعل مدونة الأسرة نموذجا للإصلاحات الجوهرية التي قام بها المغرب، فهي قانون مؤسس لمجتمع ديمقراطي حداثي، وتعتبر مبادرة فريدة من نوعها على مستوى العالم الإسلامي والعربي. كما أنها استحقاق تاريخي ناضلت من أجله منظمات وجمعيات نسائية في مرحلة عرف فيها المغرب انتعاشا كبيرا في قضايا المرأة ، وكذلك في كم الجمعيات والمنظمات النسائية.
فمدونة الأسرة قانون تدارك من خلاله المشرع المغربي الثغرات والعيوب التي كانت تشوب قانون الأحوال الشخصية، معتمدا إصلاحات جوهرية ترمي إلى صيانة كرامة الرجل، الدفاع عن المرأة، حماية حقوق الطفل وجعل المسؤولية عن الأسرة مسؤولية مشتركة بين الزوج و الزوجة على قدم المساواة وليست حكرا على الرجل فقط.
لكن بعد عشرة سنوات من تفعيلها بمحاكم قضاء الأسرة، ظهرت مجموعة من الإشكاليات التي أثرت بشكل أو بآخر على روح وفحوى مدونة الأسرة.
ولعلنا إذا أخذنا على سبيل المثال لا الحصر المساطر الآتية:
النفقة:
إذا نظرنا إلى ملفات النفقة المعروضة على محاكم قضاء الأسرة نلاحظ أن المشرع قد أحاط قضايا النفقة بضرورة البت فيها في أجل أقصاه شهر، ابتداء من تاريخ تقديم الطلب، مع العلم أن المشرع لم يرتب جزاءا على عدم احترام هدا الأجل. كما أكد في المادة 191 في فقرتها الثانية من مدونة الأسرة (10 سنوات على تطبيقها) على أن الحكم الصادر بتقدير النفقة يبقى ساري المفعول إلى أن يصدر حكم آخر يحل محله أو يسقط حق المحكوم له بالنفقة، وأيضا جعل هذه الأحكام مشمولة بالنفاد المعجل مراعيا في ذلك الحاجة الآنية والملحة للطفل في السكن والأكل والكسوة والتمدرس والعلاج.
لكن المثير للانتباه هو مصير هذه الملفات فضلا عن مشاكل التبليغ التي تعتريها ابتداء من تاريخ فتحها، يعرف صعوبات جمة فيما يتعلق بتنفيذ الأحكام الصادرة بشأنها، الشيء الذي جعل الآلاف من ملفات النفقة تتراكم وبدون جدوى في رفوف المحاكم. فحسب الإحصائيات التي أصدرتها وزارة العدل والحريات بموجب سنة 2010 راج في محاكم قضاء الأسرة 43243 طلب نفقة نفذ منها فقط 28958. أما سنة 2011 فقد راج 43903 ملف نفد منها 26309، وتعذر تنفيذ 17594، أما خلال سنة 2013 فقد راج 61012 ملف تم تنفيذ 41659 حكم وبقي 19353 حكما معلقا بدون تنفيذ. ومن خلال هذه الإحصائيات يتضح لنا أن ما يعادل نصف طلبات النفقة تبقى معلقة بدون تنفيذ، وهذه الأرقام تدق ناقوس الخطر بالنسبة لآثارها على المجتمع، فكل حكم يتعذر تنفيذه يعني أسرة بدون معيل، وهو المعطى الذي من شأنه أن يحد من فعالية النصوص القانونية وجدواها، ويؤثر سلبا على سمعة القضاء لدى المواطن عموما ولدى طالبة النفقة وأبنائها خصوصا. ولعل من أهم الأسباب التي تحول دون التنفيذ، تعذر العثور على محل سكن المنفذ عليه الذي من المفروض أن تكون السلطات المعنية على علم بمكان إقامته، وهنا اطرح سؤالين مهمين:
- هل الدولة بمؤسساتها لا تستطيع ضبط محل سكنى مواطنيها؟
- أليست هناك تجارب فضلى في هذا المجال يمكن الاستفادة منها؟
وكحل لمعضلة تراكم الآلاف من الأحكام الصادرة بالنفقة إما بسبب عدم العثور على محل سكن المحكوم عليه بالنفقة أو بسبب عسر هذا الأخير، نصت المادة الثانية من قانون المالية لسنة 2010 في فقرتيها الأولى والثانية على إحداث حساب خاص بالخزينة العامة أطلق عليه اسم صندوق التكافل العائلي، وصدر بعدها قانون 41.10 حدد شروط ومساطر الاستفادة منه. إلا أن البعض من هده الشروط تكاد تكون تعجيزية.. والمثير في الأمر كذلك هو شرط عدم الخضوع للضريبة، بمعنى إذا كانت الأم المطلقة تملك بيتا فلا تستحق الاستفادة من صندوق التكافل العائلي. إذن فما عليها إلا أن تبيع البيت الذي يؤويها وأطفالها لتستفيد من هدا الصندوق. كما أن مرسوم رقم 2.11.195 قد حدد سقف الاستفادة من الصندوق عن كل شهر في مبلغ 350 درهما لكل مستفيد على ألا يتعدى مجموع المخصصات المالية لأفراد الأسرة الواحدة 1050 درهم، ونحن كأبناء لهذا الوطن نعلم علم اليقين بأن هذه المبالغ لا تسد الرمق مقارنة مع غلاء المعيشة وارتفاع السومة الكرائية إلى غيرها من التكاليف اليومية للأطفال.
لأطرح تساؤلات عميقة من قبيل:
- ما مصير هؤلاء النساء والأطفال الدين يجدون أنفسهم بين عشية وضحاها في الشارع بعد أن كانوا ينعمون بدفيء الأسرة؟ ولماذا نتساءل عن سبب تواجد أطفال الشوارع والدعارة في بلدنا؟ أليست هذه الإشكاليات كفيلة بأن تفرخ أطفال مشردين وأمهات يبعن أجسادهن من أجل لقمة العيش؟
التطليق للشقاق:
تنصالمادة 94 من مدونةالأسرةعلىما يلي: إذاطلب الزوجانأوأحدهما من المحكمة حل نزاع بينهما يخاف منه الشقاق،وجب عليهاأنتقوم بكل المحاولاتلإصلاحذاتالبين طبقالأحكامالمادة (82).
والتطليق للشقاق مؤصل فقهيا حيث يقول عز وجل في كتابه الحكيمالآية 35"وإن خفتم شقاق بينها فابعثوا حكما منأهلهوحكما منأهلهاإنيريداإصلاحايوفق الله بينهماإنالله كان عليما خبيرا" صدق الله العظيم.
إذنفالتطليق للشقاق حسب المادة 94 من مدونةالأسرةحق يمارسه كل من الرجل المرأة..وحسب المادة 84 تستفيدالمرأةمن جميع مستحقاتها بما في دلك حقها في المتعة حتى لو كانت هي من رفعت دعوى التطليق للشقاق، كما نصت المادة 97 من مدونةالأسرةعلىأنيبث في قضايا التطليق للشقاق فيأجلأقصاه 6 أشهرابتداء من تاريخ تقديم الطلب، الشيءالذيجعل التطليق للشقاق منأهمالمستجدات التي جاءتبهامدونةالأسرة، حيث وضع من خلاله المشرع المغربي حدالتيهانالمرأةفي ردهات المحاكم منأجل حصولها على الطلاق، لتعذرقدرتها علىإثباتالضرر، فكانتالمرأةالمغربية تبقى معلقة لا هي زوجة تعيش حياة زوجية مستقرة ولا هي مطلقةبإمكانهابداية حياة جديدة.. وحسبالإحصائياتالصادرة عن وزارة العدل والحريات لسنة 2012 نجدأنعددالملفات الرائجة في هذا الموضوع وصلتإلى 119866 ملف،أماخلال سنة 2013 فقد راج في محاكم قضاءالأسرة 101424 ملف،وهدهأرقامكبيرة وصادمة، لكنها لا تعنيأننسبةالطلاق قدارتفعت بصدور مدونةالأسرة،بل لأن التطليق للشقاقأصبحيجب جميعأنواعالتطليقالأخرىلصعوبةإثباتالضررالذيتستلزمه هذهالأخيرة.
غيرأنه صدر اجتهاد قضائي يقضي بحرمانالمرأةمن حقها في المتعةإذاكانت هي من تقدمت بدعوى التطليق للشقاق وهذا يعتبر ضربا سافرا للمساواة في حق التقاضي.. إذن فما على الرجلإلاأنيذيقزوجتهأمرالعذابليدفعهاإلىطرق باب القضاء وخلع نفسها، وهدا يعتبرإشكالاخطيرا باعتبارأنمدونةالأسرةطردت الخلع من الباب ليدخله اجتهاد قضائي من النافدة، وهناأطرح سؤالا من قبيل:ما فائدة المكتسباتإذاكانت ستفند باجتهادات قضائية؟
الصلح:
نصت مدونةالأسرةعلى مسطرة الصلح في الدعاوى المتعلقةبإنهاءالعلاقة الزوجية، رامية من خلال ذلكإلىلم شتاتالأسروالحفاظ على كيانالأسرةمن التفكك، ولذلك نجد أنه لا يمكن البث في دعوى التطليقإلابعدإجراءمحاولة الصلح كما نصت على دلك المادة 82 والتي هي مؤصلة فقهيا حسبالآية 35 من سورة النساء، وقاضيالأسرةملزم بتفعيلهاأيباستدعاء الزوجين والحكمينإلىغرفة المشورة لمحاولةإصلاحذاتالبين، لكن على مستوى التفعيل.. وحسبالإحصائياتالصادرة عن وزارة العدل و الحريات، نجدأننسبةنجاحالصلح في دعاوى التطليق للشقاق 14في المائة من مجموع القضايا الرائجة خلال سنة 2013 وهذه تعتبر نسبة ضئيلة،وتعنيأنقضاءالأسرةفشل فشلا ذريعا في تفعيل مسطرة الصلح، ولعل هذا يرجع لعدةأسبابيمكنإجمالهافيما يلي:
- قضاةالأسرةنسبة كبيرة منهملا تتوفر على التجربة والمؤهلات الكافية التي تخولهمالبث في قضاياالأسرة، لأن هذهالأخيرةيجبأنيبث فيها قاض راكم تجربة مهمة وله من الخبرة والحكمة ما يؤهله للنظر في مثل هذه القضايالأنهاأولاوأخيراقضية مجتمع ككل، باعتبارأنالأسرةهي نواة المجتمع صلاحه من صلاحها وفساده من فسادها.
- المشرع المغربي لم يحدد من خلال مدونةالأسرةالشروط الواجب توافرها في الحكمين، مما يفتح الباب لمن هب ودبأنيكون حكما في قضية مصيرية تتعلق بكيانأسرة، في حين نجد الفقه المالكي قد حدد الشروط الواجب توافرها في الحكمين،حيث اشترطأربعةشروط وهي: العدالة، الرشد، الذكورةوالعلم بما هما في سبيله.
- الفضاءاتالتي يتم فيها الصلح هيفضاءاتغير لائقة لأن تكون غرف مشورة، حيث نجد هدهالأخيرةفي محاكم قضاءالأسرةعبارة عن مكاتب صغيرة مخالفةللمعايير الواجبتوافرها مع العلمأنهناك تجارب فضلى في هذا الباب.
كثرةالملفات وتراكمها وعدم وفرة العدد الكافي من القضاة تجعل قاضيالأسرةلا يخصص لجلسات الصلح حيزا زمنيا كافيا الشيءالذييحول دون نجاح مسطرة الصلح.
فهذهالاختلالاتوالصعوبات السالفذكرهامن شأنهاأنتؤثر علىإجراءاتالصلح وتحول دون نجاحها، مما جعل من مسطرة الصلح مسطرة شكلية يفعلها القاضي فقط لإلزاميتها.
كل الإشكاليات التي تحدثت عنها تجعلنا نتساءل عن مدى الاستجابة مع نص الخطاب الملكي الذي ألقاه الملك محمد السادس بمناسبة إصدار مدونة الأسرة، واعتمد كديباجة لمدونة الأسرة.