فلتشهد يا تاريخ أن القفطان المغربي، هذا الكائن الذي خرج من رحم القرون ليغدو وثيقة حضارية حيّة، قد عاد اليوم إلى مركز الضوء العالمي بعد رحلة طويلة من الصمت الهادئ والعمل العميق. ليس القفطان مجرد لباس، بل هو ذاكرة المغرب الملبوسة، لغة طبعتها الأجيال فوق الأقمشة كما يطبع الزمان أثره على الحجر؛ فمنذ الدول المرابطية والموحدية والمرينية ثم السعدية فالعلوية، ظل القفطان شاهدا على تطور الدولة والمجتمع، يرافق السلاطين في قصورهم، ويكتب سطوره فوق أكتاف النساء في طقوس الفرح والمقامات العليا للحياة.
وفي مراكش حيث تتوهّج الحرف كجمر محفوظ في زليجٍ حي، وفي فاس حيث تصعد الإبر مثل دعاء منسوج، وفي الرباط حيث التطريز يكتب قصيدة هندسية على حدود الخيال، وفي تطوان التي حملت الأندلس بين ضلوعها، حافظ الصانع المغربي على النار الأولى للقفطان. حافظ على أسرار الحرير الذي لا يشبه حرير الشرق ولا الغرب، وعلى العْقادْ التي تشدّ كما تشدّ نجوم الليل في مداراتها، وعلى الغرز التي تحمل نصف تاريخها من الوجدان الأندلسي ونصفها الآخر من الهندسة المغربية الصارمة. هؤلاء الصناع الذين عاشوا في الأزقة لا في المنصات، وفي الورش لا في الأضواء، هم الجيش الصامت الذي أبقى القفطان واقفا في وجه العولمة، صامدا أمام موجات التقليد، عاليا أمام كل محاولات التفريغ والسطو والاختزال.
ومع ذلك، كان قدر القفطان أن يختبَر في مكان غير متوقع: الهند. البلد الذي وصفه القدماء بأنه إذا تحرك تحرك العالم معه، والذي تقاس حضارات الأرض بعراقة ترابه. في الهند، حيث يتداخل الأسطوري بالواقعي، وحيث تصنع الحكايات كما تصنع القرون، برز جدل مفاجئ حول القفطان بدا في ظاهره محاولة لإعادة رسم نسب لباس مغربي عريق داخل سياق لا يملك له أرشيفا ولا سلسلة صناع ولا مدنا حاملة له. فاشتعل العالم بين دهشة وسؤال: لماذا الهند بالذات؟ هل كانت مصادفة، أم تلاقي كواكب، أم أن القفطان لم يجد سوى حضارة عملاقة كالحضارة الهندية ليعلن منها إنتماءه الحقيقي ويثبت أصله أمام مرآة لا تكذب؟ بدا وكأن الزمن إختار المسرح الأكبر ليكشف الفارق بين تراث له جذور وسلالة وشهود، وبين نسخة بلا جذع ولا ذاكرة.
وعندما إرتفع الغبار، لم يرد المغرب بالصوت المرتفع أو الادعاءات المرسلة، بل رد بما لم يستطع أحد مجادلته: الوثيقة. حمل معه أرشيف الدول التي تعاقبت على حكمه، ورسومات القفاطين السلطانية، وشهادات الحرفيين الذين ورّثوا أسرار الحرير والعقاد جيلا بعد جيل، ومسارات تطور النسج والتطريز عبر المدن، وأصول المنصورية التي ظلت إحدى قمم الجمال السعدي. وعندما قدّم هذا الإرث إلى لجنة التقييم الدولية، لم يكن مجرد ملف تراثي، بل كان دليلا حضاريا مكتملا أقنع اللجنة بما لا يترك مساحة للتردد، فصدر القرار بإدراج القفطان المغربي ضمن التراث العالمي غير المادي، اعترافا لا بجماله فحسب، بل باستمراريته وهيكله التاريخي وسلالته الصناعية.
لقد فهمت اللجنة كما فهم العالم أن القفطان ليس صورة جميلة، بل سلسلة متشابكة من الجهد والمعرفة والهوية والسيادة والطراز، وأن المغرب لم يدافع عن لباس، بل عن تاريخٍ تنفّس عبر الحرير، وعن مجتمع عاش تفاصيله، وعن دولٍ رسخته في البلاط، وعن صناع حملوه من الأزقة إلى الزمن. وهكذا لم يكن الاعتراف هدية، بل لحظة تتويج لمسار طويل من الدقة والإبداع وحفظ الذاكرة، مسار لا يستطيع غير المغرب تقديمه بهذه القوة والعمق.
ومن الهند، البلد الذي يشبه مكتبة كونية، خرج الاعتراف الأخير كأنه توقيع في سجل القضاء التاريخي. لم يكن الأمر مصادفة؛ بدا كأنه إمتحان خرج منه المغرب منتصرا. القفطان، هذا السفر الطويل، هذه القصيدة التي بدأت مع المرابطين وتوهّجت مع الموحدين وتألقت مع السعديين وترسّخت مع العلويين، وقف أمام العالم لا كزي، بل كحضارة تتوهّج، وكهوية ترفض الذوبان، وكذاكرة لا تقبل الانتحال.
ويكتب التاريخ اليوم بمداد لا يقبل المساومة: لقد عاد القفطان المغربي إلى عرشه العالمي، وعاد المغرب ليقدم للعالم الدرس القديم الجديد. أن الأصالة ليست ضجيجا يرتفع، بل سلالة تمتد. وأن الزيف يسقط مهما علت فوضاه. وأن التراث الحقيقي، حين يتكلم، لا يترك مجالا للشك. القفطان المغربي ليس لباسا. إنه تاريخ يمشي. حضارة تتنفس. وسردية أكبر من التقليد، وأعمق من الاختزال، وأرسخ من أن تنتزع من موطنها.
ومع ذلك، كان قدر القفطان أن يختبَر في مكان غير متوقع: الهند. البلد الذي وصفه القدماء بأنه إذا تحرك تحرك العالم معه، والذي تقاس حضارات الأرض بعراقة ترابه. في الهند، حيث يتداخل الأسطوري بالواقعي، وحيث تصنع الحكايات كما تصنع القرون، برز جدل مفاجئ حول القفطان بدا في ظاهره محاولة لإعادة رسم نسب لباس مغربي عريق داخل سياق لا يملك له أرشيفا ولا سلسلة صناع ولا مدنا حاملة له. فاشتعل العالم بين دهشة وسؤال: لماذا الهند بالذات؟ هل كانت مصادفة، أم تلاقي كواكب، أم أن القفطان لم يجد سوى حضارة عملاقة كالحضارة الهندية ليعلن منها إنتماءه الحقيقي ويثبت أصله أمام مرآة لا تكذب؟ بدا وكأن الزمن إختار المسرح الأكبر ليكشف الفارق بين تراث له جذور وسلالة وشهود، وبين نسخة بلا جذع ولا ذاكرة.
وعندما إرتفع الغبار، لم يرد المغرب بالصوت المرتفع أو الادعاءات المرسلة، بل رد بما لم يستطع أحد مجادلته: الوثيقة. حمل معه أرشيف الدول التي تعاقبت على حكمه، ورسومات القفاطين السلطانية، وشهادات الحرفيين الذين ورّثوا أسرار الحرير والعقاد جيلا بعد جيل، ومسارات تطور النسج والتطريز عبر المدن، وأصول المنصورية التي ظلت إحدى قمم الجمال السعدي. وعندما قدّم هذا الإرث إلى لجنة التقييم الدولية، لم يكن مجرد ملف تراثي، بل كان دليلا حضاريا مكتملا أقنع اللجنة بما لا يترك مساحة للتردد، فصدر القرار بإدراج القفطان المغربي ضمن التراث العالمي غير المادي، اعترافا لا بجماله فحسب، بل باستمراريته وهيكله التاريخي وسلالته الصناعية.
لقد فهمت اللجنة كما فهم العالم أن القفطان ليس صورة جميلة، بل سلسلة متشابكة من الجهد والمعرفة والهوية والسيادة والطراز، وأن المغرب لم يدافع عن لباس، بل عن تاريخٍ تنفّس عبر الحرير، وعن مجتمع عاش تفاصيله، وعن دولٍ رسخته في البلاط، وعن صناع حملوه من الأزقة إلى الزمن. وهكذا لم يكن الاعتراف هدية، بل لحظة تتويج لمسار طويل من الدقة والإبداع وحفظ الذاكرة، مسار لا يستطيع غير المغرب تقديمه بهذه القوة والعمق.
ومن الهند، البلد الذي يشبه مكتبة كونية، خرج الاعتراف الأخير كأنه توقيع في سجل القضاء التاريخي. لم يكن الأمر مصادفة؛ بدا كأنه إمتحان خرج منه المغرب منتصرا. القفطان، هذا السفر الطويل، هذه القصيدة التي بدأت مع المرابطين وتوهّجت مع الموحدين وتألقت مع السعديين وترسّخت مع العلويين، وقف أمام العالم لا كزي، بل كحضارة تتوهّج، وكهوية ترفض الذوبان، وكذاكرة لا تقبل الانتحال.
ويكتب التاريخ اليوم بمداد لا يقبل المساومة: لقد عاد القفطان المغربي إلى عرشه العالمي، وعاد المغرب ليقدم للعالم الدرس القديم الجديد. أن الأصالة ليست ضجيجا يرتفع، بل سلالة تمتد. وأن الزيف يسقط مهما علت فوضاه. وأن التراث الحقيقي، حين يتكلم، لا يترك مجالا للشك. القفطان المغربي ليس لباسا. إنه تاريخ يمشي. حضارة تتنفس. وسردية أكبر من التقليد، وأعمق من الاختزال، وأرسخ من أن تنتزع من موطنها.