في كتابه "فلسفة كرة القدم: ما وراء اللعبة"، أكد الكاتب الإنجليزي ستيفن مامفرود، أن "القيمة الحقيقية للعبة ليست في الفوز أو الخسارة، بل في الاتحاد في ما ننتمي إليه جميعا، في الانتماء والهوية واللغة والأسماء والأشياء». ولهذا يحق لنا، والمغرب مقبل على تنظيم أهم حدث رياضي قاري في 21 دجنبر 2025، أن نطرح مجموعة من الأسئلة: ما هو المكسب الحقيقي للمغرب من تنظيم كأس إفريقيا؟ هل يتعلق الأمر بتعزيز موقع البلد كقوة رياضية صاعدة؟ أم بتحقيق انتعاش اقتصادي مؤقت؟ أم بتطوير البنية التحتية؟ أم بتسويق الصورة الدولية المشرقة للمغرب؟
في الحقيقة، لا يمكن فصل هذه العناصر عن بعضها، لأن المكسب الحقيقي هو هذه المكاسب مجتمعة، بشرط أن تُبنى داخل رؤية استراتيجية متناسقة. ذلك أن "كأس إفريقيا" ليست محطة نهاية في حد ذاتها، بل وسيلة لتكوين رؤية بعيدة المدى لقطاع الرياضة، ولربطه بالتنمية الاقتصادية، والاندماج الاجتماعي، والدبلوماسية الثقافية والقوة الناعمة. كما أن المكسب الحقيقي لن يظهر إلا في السنوات القادمة، عندما تبدأ آثار البطولة في الظهور داخل الأحياء، والمدارس، والجمعيات، والقطاع الخاص، والمجتمع المدني، وعندما تتحول الملاعب إلى فضاءات إنتاج لا إلى منشآت عرض، وحين تحتضن بلادنا أهم حدث كروي على المستوى الدولي (كأس العالم 2030).
في اللحظة الراهنة، حيث تتوجه الأنظار إلى الملاعب العالمية التي شيدها المغرب (الملعب الكبير بالدار البيضاء؛ ملعب مولاي عبد الله بالرباط؛ ملعب طنجة، إلخ …)، وإلى الأوراش المهيكلة الحضرية التي تشهدها المدن المستضيفة، من طرق ووسائل نقل وبنيات استقبال (مطارات، فنادق، مواصلات لاسلكية.. إلخ) وخدمات، يصبح النقاش حول المكاسب الممكنة من تنظيم البطولة ضرورة ملحة، لأن الرياضة في السياق المغربي أصبحت، كما يتضح، جزءا من لغة الدولة الحديثة، وأداة لإعادة تشكيل صورتها داخلياً وخارجياً.
ولهذا، فإن مقاربة موضوع المكاسب من تنظيم المغرب لكأس إفريقيا تحتاج إلى منظور موسع لا يختزل الأمر في حسابات مالية ظرفية، ولا يحصره في الانتشاء المجتمعي الآني، بل يتجاوزه إلى البحث في البنية العميقة للمشروع الرياضي الوطني، وفي قدرته على التحول إلى رافعة اقتصادية واجتماعية ورمزية تتجاوز حدود البطولة نفسها، إلى ترصيد المكاسب الممكنة:
أولا: على مستوى البنيات التحتية
يمكن للملاعب التي تُشيد أن تتحول إلى مراكز إنتاج رياضي محلي، إذا توفرت رؤية واضحة لاستعمالها. غير أن التاريخ الرياضي في كثير من البلدان يكشف أن الملاعب الكبرى قد تتحول، في غياب سياسات واضحة، إلى فضاءات ضخمة لا تستفيد منها إلا المباريات الكبرى، وهو ما يستنزف المال العام ولا يقدم مقابله مكاسب اجتماعية مستدامة. ولهذا يوجد المغرب، في هذه اللحظة، أمام فرصة لإعادة تعريف وظيفة الملاعب والتعامل معها كمحركات للرياضة المحلية، وفضاءات مفتوحة للتنشيط الدائم، ومراكز تكوين يمكن أن تسهم في خلق قاعدة رياضية واسعة تضمن للرياضة المغربية مسارا تصاعديا مستقلا عن نتائج المنتخب في المحافل الدولية. وهنا يظهر بوضوح أن المكسب الحقيقي ليس في عدد الجماهير التي ستملأ الملاعب أثناء البطولة، بل في عدد الأطفال والشباب الذين سيستعملون هذه المنشآت بعد سنوات، وفي نوعية البرامج التي ستُبنى حولها.
ثانيا: على مستوى الحكامة والتسيير
يفرض تنظيم بطولة بهذا الحجم معايير صارمة تتعلق بالتدبير، واللوجستيك، والأمن، والتواصل، وتدبير الجماهير، وشبكات النقل، والتنسيق بين مؤسسات مختلفة. إذ كلما ارتفع مستوى التعقيد التنظيمي، كلما كان البلد مضطرا إلى تطوير قدراته المؤسساتية. وهذا بحد ذاته مكسب مهم، لأنه يرفع من جاهزية الأجهزة الإدارية، ويُكسبها خبرة قد لا تتاح إلا في مثل هذه الأحداث. الفائدة هنا ليست مرتبطة بـ (الكان) (كأس إفريقيا) كحدث قاري مهم، بل بتكوين أطر قادرة على تسيير مباريات، مؤتمرات، فعاليات سياحية كبرى، أو تظاهرات كبرى أخرى قد يستضيفها البلد. ومن زاوية سياسية، فإن المغرب ينظر إلى تنظيم (الكان) كخطوة نحو تعزيز حضوره الدولي، وتمهيد مسار تنظيم كأس العالم 2030. وبالتالي، فإن كل ما يُبنى اليوم يدخل في مسار استراتيجي طويل، تحضر فيه الرياضة بوصفها واجهة لصورة المغرب وقدرته على الإنجاز.
ثالثا: على مستوى العلاقات الدولية
يمكن النظر للحدث باعتباره مكسبا دبلوماسيا، لأن الرياضة أصبحت إحدى أكثر أدوات القوة الناعمة فعالية في بناء النفوذ والتأثير. كما أن تنظيم المغرب لبطولة قارية في ظرفية سياسية حساسة داخل القارة، يجعله في موقع محوري داخل الاتحاد الإفريقي، ويمنح له مساحة أوسع للتنسيق مع الدول الإفريقية الحليفة، خاصة أن الرياضة ليست تحولت إلى مساحة مهمة للتواصل بين الشعوب وتعزيز التعاون بين الحكومات وتطوير مشاريع مشتركة تمتد إلى مجالات الاستثمار والبنية التحتية والتعليم. ولهذا، فإن المكاسب الدبلوماسية قد تكون أعمق من المكاسب الاقتصادية المباشرة، لأنها تفتح أمام المغرب آفاقا جديدة في علاقاته الإفريقية والمتوسطية، وتمنحه موقعا إستراتيجيا يُراكم عليه في السنوات القادمة.
رابعا: على المستوى الاجتماعي
يتعلق هذا المكسب بالاستفادة من علاقة الرياضة بالمجتمع، وبالقدرة على تحويل الحماس الشعبي إلى رافعة نفسية ومجتمعية. فالمغاربة، مثل معظم شعوب العالم، ينظرون إلى كرة القدم باعتبارها أكثر من لعبة. هي فضاء للتعبير، ونقطة لقاء بين فئات اجتماعية مختلفة، ومساحة لتفريغ الطاقات والانفعالات، ومنصة لصناعة لحظات وطنية مشتركة. وعليه، فإن تنظيم البطولة قد يخلق لحظة انتماء جماعي قوية، تذوب فيها الفوارق الاجتماعية مؤقتا، ويشعر الجميع بأنهم جزء من قصة واحدة. هذه اللحظة مهمة لأنها تعزز رأس المال الاجتماعي، وتعيد للمجتمع شيئاً من الثقة والأمل، خصوصا في سياق يعرف تحديات اقتصادية واجتماعية متعددة. ولكن هذا المكسب الرمزي، رغم أهميته، يظل هشا إذا لم تواكبه سياسات اجتماعية تضمن استمرار أثره في المدارس، والأحياء، والجمعيات الرياضية، لأن الرياضة ليست مجرد منافسة، بل منظومة تربوية واجتماعية تحتاج إلى رؤية.
خامسا: على المستوى الرمزي والسيكولوجي
أصبحت الرياضة اليوم إحدى أهم أدوات بناء الصورة الوطنية. ولذلك، فإن المغرب يسعى من خلال تنظيم (الكان) إلى تقديم نفسه كبلد آمن ويملك مؤسسات مستقرة، وقادر على الإنجاز، وعلى جمع العالم داخل فضائه. ولهذا، فإن كل تفصيل في التنظيم، من جودة المواصلات إلى هندسة الملاعب، ومن نظافة الفضاءات إلى نوعية الخدمات، تصبح جزءا من السردية التي سيقدمها المغرب لإعادة تشكيل العلامة الوطنية وتطوير صورتها، وهي عملية معقدة تتداخل فيها عناصر اقتصادية وسياسية وثقافية.
سادسا: على مستوى التربية والتكوين
يمكن قراءة تنظيم (الكان) كفرصة للتكوين والاندماج الاجتماعي. فإذا استطاع المغرب أن يربط بين ما يراه الشباب في الملاعب وبين ما يمكنهم تحقيقه في حياتهم اليومية، فإن ذلك سيكون مكسبا تربويا واسع الأثر إذا أعقبته سياسات واضحة لدعم الأندية المحلية الصغيرة، وتطوير الرياضة المدرسية التي تعد الحلقة الأضعف في السلسلة الرياضية، وتعزيز دور الجمعيات، وخلق فضاءات آمنة ومجهزة للتمرين.
ومع ذلك، فإن المكسب الحقيقي لن يظهر من خلال البطولة نفسها، بل من خلال العقد القادم، ومن خلال قدرة المغرب على تحويل هذه المنشآت إلى فضاءات إنتاج رياضي حقيقي، وتطوير منظومة احترافية محلية تخلق اقتصادا رياضيا مستداما يشمل النقل، السياحة الرياضية، التكوين، الاستثمار الخاص، وتوسيع قاعدة الاندماج الرياضي داخل المجتمع.
ومن العناصر التي تحتاج إلى نقاش عميق في إطار المكاسب، مسألة التوزيع المجالي للاستثمارات الرياضية. إذ يطرح السؤال حول مدى استفادة المناطق الأقل حظا من هذه الدينامية، ومدى قدرة السياسات الحالية على خلق توازن بين المدن الكبرى التي تحتضن المباريات والمناطق النائية التي لا يصلها إلا صدى الاحتفال.
المكسب هنا يمكن أن يتخذ بعدا جديدا إذا نجح المغرب في بناء سياسة رياضية محلية تضمن عدالة مجالية في الوصول إلى المنشآت، وفي تمويل المبادرات الرياضية القاعدية، لأن الرياضة ينبغي أن تكون حقا اجتماعيا عموميا. وإذا استطاعت الدولة تحويل حدث (الكان) إلى مناسبة لإعادة التفكير في الخريطة الرياضية الوطنية، فإن المكسب سيتجاوز حدود لحظة المنافسة، ويتحول إلى إصلاح شامل للبنية الرياضية.
ولا يمكن تجاهل البعد الثقافي للمكاسب كذلك، لأن تنظيم حدث كروي ضخم يُجبر البلد على مواجهة أسئلة الهوية، والذاكرة الرياضية، والعلاقة المتوترة أحيانا بين المجتمع والدولة في لحظات الاحتفال أو الغضب. ولهذا، فإن تنظيم (الكان) فرصة سانحة لفتح الباب أمام نقاش ثقافي يتعلق بدور الرياضة في صياغة الوجدان الجماعي، وبكيفية تفاعل الجماهير مع المنتخب، وبمدى تحوُّل المدرجات إلى فضاءات للتعبير، أو للاحتجاج، أو لإعادة إنتاج الانتماء الوطني.
ولا يمكن تجاهل البعد الثقافي للمكاسب كذلك، لأن تنظيم حدث كروي ضخم يُجبر البلد على مواجهة أسئلة الهوية، والذاكرة الرياضية، والعلاقة المتوترة أحيانا بين المجتمع والدولة في لحظات الاحتفال أو الغضب. ولهذا، فإن تنظيم (الكان) فرصة سانحة لفتح الباب أمام نقاش ثقافي يتعلق بدور الرياضة في صياغة الوجدان الجماعي، وبكيفية تفاعل الجماهير مع المنتخب، وبمدى تحوُّل المدرجات إلى فضاءات للتعبير، أو للاحتجاج، أو لإعادة إنتاج الانتماء الوطني.
من جهة أخرى، يمكن لكأس إفريقيا أن يكون، في الشق الآخر المستتر، مرآة تكشف الاختلالات. فإذا كانت البطولة تُظهر قدرة التنظيم، فإنها قد تكشف أيضا ضعف بعض البنى، أو قصور بعض الخدمات مثلا: (نقل، مطاعم، فنادق، إلخ…)، أو هشاشة بعض الفضاءات. وهذا في حد ذاته مكسب، لأن كشف الاختلال جزء من عملية الإصلاح. ذلك أن البلدان التي تتعامل بذكاء مع الأحداث الكبرى تحولها إلى مختبرات تشخيصية واسعة، تمكنها من تقييم قدرتها الحقيقية على مواجهة الضغط، وتحسين خدماتها على ضوء التجربة. فإذا نجح المغرب في تحويل البطولة إلى لحظة تشخيص وإصلاح في الوقت نفسه، فإن المكسب سيكون مضاعفا، لأن التطوير سيأتي في لحظة تكون فيها الأنظار كلها مسلطة على البلد.
وإذا كان تنظيم بطولة قارية يمنح المغرب فرصة لصناعة مكاسب متعددة، فإنه في الوقت نفسه يضعه أمام مسؤولية كبيرة تتعلق بتوقعات المجتمع. فالجماهير ترى في المنتخب الوطني امتداداً لعواطفها، وفي التنظيم فرصة لإثبات الذات أمام العالم. لكن الدولة مطالبة بإدارة هذه التوقعات بذكاء، وبناء خطاب واقعي يوازن بين الحلم والقدرة، وبين الطموح والحدود. فالمكسب الرمزي لا ينبغي أن يتحول إلى ضغط سلبي، بل يجب أن يبقى طاقة إيجابية، ومصدراً للتعبئة البناءة للمجتمع، وليس منصة للإحباط في حال لم تتحقق النتائج الرياضية المرجوة. ولعل أكبر تحدٍّ في هذا السياق هو تحويل الاهتمام الشعبي بالمنتخب إلى اهتمام بالسياسات الرياضية، بحيث يصبح الجمهور قادراً على متابعة تفاصيل التطوير، وليس فقط نتائج المباريات.
لقد أصبح تنظيم البطولات الرياضية الكبرى اختبارا لقدرة الدول على بناء نموذجها التنموي الخاص، وليس مجرد امتحان لقدرتها على التنظيم. وإذا استطاع المغرب أن يترجم هذا الحدث إلى رؤية مستقبلية واضحة، تعالج تحديات الحاضر وتفتح آفاقا للغد، فإن المكسب الحقيقي سيكون هو تحويل الرياضة إلى جزء من هندسة المستقبل الوطني.
تفاصيل أوفى تجدونها في العدد الجديد من أسبوعية " الوطن الآن"