Wednesday 10 December 2025
كتاب الرأي

مصطفى عنترة: قراءة في تحولات المجتمع الصحراوي في أفق الحكم الذاتي

مصطفى عنترة: قراءة في تحولات المجتمع الصحراوي في أفق الحكم الذاتي مصطفى عنترة
على ضوء النقاش الجاري اليوم بجهات الصحراء والناتج عن تبني مجلس الأمن للقرار رقم 2797 والذي كرس الحكم الذاتي كحل سياسي ناجع للطي النهائي لهذا الملف، وما صاحب هذا النقاش من تفاعل سياسي وقانوني ليتعداه الى ما هو اجتماعي واقتصادي. 

ويذكر ما سبق للباحث الجامعي الدكتور سيد أحمد الشرادي تناول باسهاب عمق وتداعيات هذه التحولات في مقال تحت عنوان " محاولة رصد مظاهر التحولات الاجتماعية بالأقاليم الجنوبية في افق نظام الحكم الذاتي بجهة الصحراء". 

وهي محاولة فكرية جادة لتشخيص التحولات العميقة التي عرفها المجتمع الصحراوي المغربي خلال العقود الأخيرة. يركّز الباحث على تحليل أثر التغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في تشكيل ملامح مجتمع جديد، يتأرجح بين إرث البداوة وثقافة التمدّن، وبين الولاء القبلي والانخراط في مشروع الدولة الحديثة في ظل أفق الحكم الذاتي.

منطلق المقال هو محاولة الإحاطة الشاملة بالتحولات التي مست الإنسان والمجال في الصحراء، وهي ليست بالمهمة السهلة، لأن هذه التحولات لم تكن فقط اقتصادية أو اجتماعية، بل كانت أيضا سياسية وثقافية متشابكة. 

فقد عرف المجتمع الصحراوي، تاريخيًا، نمط حياة بدويا يقوم على الحل والترحال، وكان الاقتصاد الرعوي يمثل الأساس المادي لكل العلاقات الاجتماعية والقيمية، حيث ارتبطت الثروة الحيوانية بالمكانة الاجتماعية وبقيم الكرم والتعاون والتضامن. غير أن هذه البنية بدأت تتفكك تدريجيا مع التقسيم الاستعماري للمنطقة، الذي فرض حدودا مصطنعة وأدى إلى زعزعة أسس النظام الاجتماعي التقليدي. ومع منتصف الستينات، وتفاقم موجات الجفاف، دخلت المنطقة مرحلة الاستقرار القسري، الذي تعزز لاحقا مع بداية استغلال مناجم بوكراع وتطور بنية العمل المأجور، مما دفع المجتمع نحو التمدّن والانخراط في الاقتصاد العصري.

يشير الباحث الشرادي إلى أن عملية التمدّن والاستقرار لم تكن مجرد تحوّل مكاني أو اقتصادي، بل كانت زلزالا قيميا عميقا مسّ بنية الهوية والولاء الاجتماعي. فقد تراجع الدور الفعلي للقبيلة كمؤسسة جامعة للأفراد، لتحل محلها علاقات جديدة أكثر فردانية واستقلالية. ومع ذلك، لم تختف القبيلة تماما، بل أعادت إنتاج نفسها في شكل رمزي وإيديولوجي، حيث أصبحت تستعمل أداة ضغط اجتماعي أو وسيلة للتمثيل السياسي عند الحاجة. وفي ظل هذا التحول، برزت ظواهر جديدة مثل تفكك العائلة الممتدة، وصعود العائلة النووية، وتراجع قيم التضامن لصالح قيم المنفعة والمصلحة الخاصة.

أما على الصعيد الاقتصادي، فيرى الشرادي أن الجهود التي بذلتها الدولة لتنمية الأقاليم الجنوبية لم تحقق نتائج ملموسة لدى فئات واسعة من السكان. فضعف التأهيل البشري، واستمرار الذهنية الريعية، والنفور من العمل اليدوي، جعلت التنمية محدودة الأثر. وقد أدى هذا الوضع إلى اتساع الفوارق الطبقية، وبروز فئات اجتماعية جديدة تهيمن على المشهد المحلي في غياب توازن اقتصادي واجتماعي حقيقي. كما ساهمت هذه الفجوة في تنامي حركات احتجاجية، خصوصا بين فئة "الساكنة الأصلية" التي شعرت بالتهميش وفقدان فرص الارتقاء الاجتماعي.

وفي الجانب السياسي، يوضح الباحث أن القبيلة تحولت من بنية اجتماعية واقعية إلى إطار إيديولوجي يستعمل في بناء الشرعية السياسية أو في التمثيل الانتخابي. فمشروع الحكم الذاتي، بما يحمله من آفاق ديمقراطية وجهوية، يطرح تحديا حقيقيا يتمثل في كيفية تمثيل البنية القبلية داخل مؤسسات الحكم الذاتي دون المساس بمبادئ الديمقراطية والمواطنة. كما أن غياب رؤية استراتيجية شاملة لتنزيل هذا المشروع قد يؤدي إلى بعثرة الجهود وتعطيل قيام مؤسسات جهوية قوية ومستقلة.

ويخلص سيد أحمد الشرادي إلى أن التحولات التي عرفتها الأقاليم الجنوبية خلال العقود الأخيرة عميقة ومعقدة، إذ مست الإنسان والمجال والقيم معا. فالقبيلة، رغم تراجعها، ما تزال حاضرة كرمز اجتماعي وسياسي يصعب تجاوزه. ومن ثمّ، فإن نجاح مشروع الحكم الذاتي يبقى مرهونا بقدرة الدولة والمجتمع المحلي على خلق نموذج تنموي جديد، يحقق العدالة المجالية، ويؤهل النخب المحلية، ويوازن بين الانتماء القبلي والهوية الوطنية الجامعة.
تطرح قراءة الدكتور سيد أحمد الشرادي تساؤلات جوهرية حول مستقبل المجتمع الصحراوي في ظل التحولات الراهنة، من قبيل: هل يمكن فعلا تجاوز البنية القبلية في ظل استمرار توظيفها السياسي؟ إلى أي حد يمكن للتنمية الاقتصادية أن تكون مدخلا لنجاح الحكم الذاتي؟ وكيف يمكن التوفيق بين الحداثة السياسية والموروث الثقافي والاجتماعي الصحراوي دون تدمير أحدهما؟

إنها دراسة تعيد التفكير في مفهوم التحول الاجتماعي نفسه، وتربط بين المحلي والوطني، بين الاجتماعي والسياسي، لتؤكد أن فهم واقع الصحراء لا يمكن أن يتم إلا عبر قراءة متأنية لتاريخها الاجتماعي ومسارات تحولها القيمي والمؤسساتي.

وبالرغم من المكتسبات المحققة في تلك الربوع، فإن الأصوات التي ترتفع احيانا في اللقاءات التواصلية المفتوحة المنظمة بجهة الصحراء، تعكس في جوهرها بعض مكنونات وهواجس الساكنة الصحراوية التي ظلت مكبوتة تنتظر لحظة للتداعي الحر.

فالكل متفق على التشخيص، لكن ما هي الوصفة الناجعة لمعالجة اختلالات بنيوية تراكمت على مدى عقود في ظل عوز الحكامة والتعامل مع القضية ككل كأصل تجاري، الكل يريد ان ينال نصيبه منها؟

 وليظل ما يسميه البعض التحالف والتواطئ بين التكنوقراطي والسياسي لعبة استأثرت بمجريات الأمور وفرضت غشاوة على عين صانع القرار، نتيجة عدم تجرد "مصفاة" نقل المطالب التي طالما تاثرت اقتراحاتها ( بتقارير تحت الطلب) وحضور سلوك وثقافة المحسوبية والزبونية واحيانا الولاءات الأولية او "القبلية المقيتة"، وبالتالي ساهمت في اجهاض مبادرات تنموية كبرى وخلق بذلك وضعا اقتصاديا واجتماعيا متأزما، وغدت الشعور بالتذمر في ظل استحقاقات كبرى مقبلة عليها جهة الصحراء.

والاكيد ان الوضع يسائل النخب المحلية التي ستنتقل من مجرد التمثيل الى التدبير، بحكم الأدوار الجديدة التي ستسند إليها والتحديات المقبلة التي يتعين رفعها. 

ألا يطرح هذا وبقوة سؤال: إعادة ترتيب النخب بالصحراء  وكذا التفكير بجدية في قنوات إنتاجها بحكم انفتاح الحقل السياسي المحلي على نخبة الحقل المضاد بمفهوم بيير بورديو، وحتى لا نعيد انتاج معادلة التقريب والاقصاء التي طالما حكمت الفعل الدولتي بالمنطقة، بمعنى تقريب  كل من دان لها بالولاء وقبل الدخول في شبكاتها الزبونية واقصاء كل من هو لصيق بالمجتمع، اي كل من ينتمي عضويا بالمعنى الغرامشي للمجتمع، والنتيجة نخب مصطنعة. 
 

د مصطفى عنترة، باحث جامعي