Monday 8 December 2025
كتاب الرأي

منير لكماني: جذوة التغيير في عمق السكون

منير لكماني: جذوة التغيير في عمق السكون منير لكماني
تتشكل مسارات التطور في حياة المجتمعات كما تتشكل ملامح الإنسان حين يواجه صورته للمرة الأولى من دون زخرفة. لا يعصمه استهلاك مظاهر الحضارة من ارتباكه الداخلي، ولا تنقذه وفرة الأدوات من ضعف الإرادة.
 
فالنهضة ليست ثمرة تقليد، ولا نتيجة تكديس، بل حصيلة يقظة داخلية تستعيد فيها الجماعة صلتها بكرامتها وقدرتها على الفعل. وما لم يتحول هذا الوعي إلى ممارسة يومية، يظل كل مشروع معلقا في الهواء، مهما بدا متينا في ظاهره.
 
جذور المشكلة
تكمن الأزمة الحقيقية في تصور التطور بوصفه انتقالا سريعا من حالة إلى أخرى، كأن المجتمع يمكن أن يقفز فوق ماضيه دفعة واحدة. هذا الوهم يدفع إلى البحث عن حلول عملاقة قبل تثبيت اللبنات الصغيرة. نطمح إلى تحولات شاملة، ونطلب ثمارا كثيرة، ونضع سقفا عاليا قبل أن نبني الأرضية المتماسكة. وهكذا نصطدم بالبدايات، ثم ننكص، ثم نكرر الأخطاء نفسها في دورة لا تنتهي.
 
تتعثر المبادرات لأنها تفتقر إلى جذور فكرية عميقة. لا ينتقص هذا من قيمة الحلم، لكنه يكشف أن الحلم وحده غير قادر على حمل مشروع. من دون وعي نقدي يعيد ترتيب الأولويات، يصبح التغيير مجرد شعارات تتبدد حالما تهب رياح الواقع.
 
خطوة ممكنة
تحتاج النهضة إلى مبدأ بسيط لكنه صلب: الفعل الممكن. لا يهم حجمه، بل قدرته على النمو. كتاب واحد يمكن أن يوقظ جيلا كاملا، ومعلم واحد يمكن أن يحول فصلا صغيرا إلى نواة مستقبل. التجربة النوعية أبلغ أثرا من عشر مبادرات تفتقر إلى الروح.
 
يتشكل التغيير حين يصبح السلوك اليومي جزءا من المشروع الجماعي. لا يكفي أن نطالب بمدارس جديدة، بل يجب أن نحفظ قيمة التعلم، وأن نزرع في الناشئة شغف المعرفة. ولا يكفي أن نزين الشوارع بالوعود الأخلاقية، بل ينبغي أن نمارس هذا الخلق في أبسط تفاصيل الحياة.
 
صورة الذات
يعيش الإنسان أزمته العميقة حين يتأرجح بين انبهار بالآخر وتمسك مضطرب بجذوره. هذا التذبذب يشتت الوعي، ويحول الانتماء إلى سؤال مؤجل. فلا هو قادر على ذوبان كامل، ولا راغب في انفصال تام. وفي هذا الفراغ تتشكل هواجس تقلل من قدرته على المبادرة، وتدفعه إلى التشكيك في ذاته.
 
ليس الإشكال في أن نستلهم تجارب الأمم، بل في أن نحولها إلى بديل عن هويتنا. التجربة ليست قناعا نضعه، بل مرآة ننظر فيها لنرى نقاط القوة والضعف. وما لم تتحول هذه النظرة إلى حافز داخلي، يصبح الاقتباس قيدا لا أداة.
 
مقاومة الفشل
ينشأ الخوف من الفشل من تصور خاطئ يختزل التجربة في نتيجتها، لا في رحلتها. فالفعل البشري يتطور عبر الأخطاء، ويشتد عبر الصدمات. غير أن ثقافة جلد الذات تجعل الفشل مرعبا، وتضيف إليه هالة تضخم أثره. وهذا يجعل التراجع أسهل من المثابرة، والانسحاب أقرب من المحاولة.
 
أما النهضة فتحتاج إلى فهم مختلف: الفشل ليس نهاية، بل جزء من تكوين القدرة. ومن يقبل احتمال التعثر، يكتسب طاقة الاستمرار. الطريق الطويل يبدأ بخطوة هادئة، لكنه يحتاج إلى قلب جرئ، وإلى وعي يقبل التعلم من السقوط كما يتعلم من النجاح.
 
بناء تراكمي
التغيير الحقيقي لا يولد من الصدفة، ولا من قرار فوقي، بل من تراكم بطيء. إصلاح واحد ناجح، معلم واحد مخلص، مكتبة واحدة نابضة، مبادرة واحدة متينة، كلها تشكل طبقات دقيقة في جسد المجتمع. ومع الوقت تتحول هذه الطبقات إلى ثقافة، ثم إلى بنية ثابتة، ثم إلى وعي جديد يتجاوز اللحظة الراهنة.
 
لا يحتاج المجتمع إلى غابة من الإنجازات الوهمية، بل إلى شجرة حقيقية تكبر أمام الناس. حين يرون نموها، يتعلمون معنى الصبر، ومعنى الجهد، ومعنى البناء.
 
من هنا يبدأ الطريق
التقدم يبدأ حين نكف عن انتظار المعجزات، وحين نتوقف عن مقارنة أنفسنا بمن هم فوقنا، وحين نلتفت إلى ما يمكن فعله في اللحظة الراهنة. نهضة الإنسان تنطلق من وعيه، من قدرته على إعادة ترتيب ذاته، وعلى تحويل أحلامه إلى سلوك. والسؤال الذي يبقى مفتوحا هو التالي: ما الخطوة الممكنة التي نستطيع اتخاذها اليوم؟ وكيف نحولها إلى عادة تبني غدا مختلفا؟ هل نحن مستعدون لمواجهة ذواتنا قبل مواجهة العالم؟