Wednesday 3 December 2025
كتاب الرأي

أنور الشرقاوي: حين تصرخ طبيبة مغربية شابة طلباً للنجدة

أنور الشرقاوي: حين تصرخ طبيبة مغربية شابة طلباً للنجدة الدكتور أنور الشرقاوي
الوجع العميق لمهنة أُنهكت… ومجتمعٍ فقد بوصلته

خرج النداء من المجموعات المغلقة للأطباء ب WhatSap  كصرخة مجروحة، صرخة بلا رتوش، كُتبت بأنفاس متقطعة، تشبه لحظة يختلط فيها الخوف بالعجز.
طبيبة عامة مغربية شابة، فتحت للتو باب عيادتها في القطاع الخاص، تروي أنها تعرّضت لاعتداءات متكررة من رجل اقتحم عليها حتى حرمة عيادتها… 
ذلك المكان الذي يفترض أن يكون ملاذاً آمناً، بيتاً للشفاء، وملجأً للطمأنينة.
اليوم، أغلقت عيادتها.
تختبئ في منزلها، محاصرة بالرعب، تبحث عن طبيب نفسي، عن محامٍ، عن جمعية، عن أي يد تنتشلها من هذا القاع. هذا ما جاء في تعليق وزع عن طريق الواتساب. والعهدة والمسؤولية لمن أذاع هذا الواتساب. 
نداؤها ليس مجرد استغاثة مهنية مفردة بل صرخة مهنة كاملة أصبحت تشك في قدرتها على حماية نفسها.
 
هذه الحكاية ليست حادثة فردية
إنها مرآة لوجعٍ أكبر، لغياب احترامٍ كان يوماً جزءاً من قدسية مهنة الطب.
ففي المغرب، ظل الطبيب لعقود يحمل هالة من الوقار والثقة. 
لكن هذه الهالة تكسّرت، شظاياها تناثرت مع الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والنفسية التي زرعت في المجتمع بذور غضبٍ يتصاعد، كأن الناس يبحثون عن صدرٍ ينهالون عليه بآلامهم… فوجدوا الطبيب.
 
هكذا تحوّل الطبيب من ركيزة اجتماعية إلى هدفٍ سهل للغضب المتراكم 
تراجع احترامه، خفتت مكانته، وتشتت صوته.
فالقطاع الطبي الليبرالي والعام بلا تمثيلية قوية، بلا صوت موحّد، بلا مؤسسة قادرة على الدفاع عنه، على طرق أبواب الدولة، على مواجهة الجور حين يقع.
 
وبهذا الفراغ، تُترك المهنة مكشوفة، معرّضة، مكسورة الجناح 
يزداد المشهد تعقيداً مع التحول الكبير الذي تعرفه المهنة: feminisation massive.
أعداد متزايدة من الطبيبات يفتحن عياداتهن، كثيرات منهن يعملن منفردات في أحياء لا توفر الحد الأدنى من شروط الحماية.
ومع ذلك، لم يُعدّل النظام شيئاً، لم تُنشأ بروتوكولات، ولا برامج مواكبة، ولا إجراءات حماية.
الطبيبة التي تعرّضت للاعتداء تدفع ثمنين: ثمن عنف رجل، وثمن دولة لم تدرك أن الزمن تغيّر وأن نساء يرتدين الأبيض في الخطوط الأمامية بحاجة إلى حماية مضاعفة.
 
قانونياً، المفارقة جارحة 
فالقانون المغربي واضح: حماية الطبيب، قدسية عيادته، تجريم العنف والتهديد والتحرش، عقاب كل من يعرقل ممارسة مهنة منظمة.
ومع ذلك، ما يزال المعتدي لحد اليوم حراً طليقاً، والضحية مختبئة، والمهنة صامتة حسب ما نقل على الواتساب.
إنها الفجوة المؤلمة بين النص والواقع، بين ما يُكتب بالحبر وما يُطبق على الأرض.
قانونٌ يتيمةٌ آراؤه… ما لم يدافع عنه أصحابه.
في دول كثيرة، الاعتداء على طبيب يُعدّ خطاً أحمر: الهيئة المهنية تتحرك فوراً، تترافع، تُصدر بيانات، تتواصل مع الإعلام، تُحاسب.
أما في المغرب، فكثيراً ما يُترك الطبيب وحيداً، يقاتل وحده، ويتألم وحده، وينكسر وحده.
وهنا ينبت السؤال المزلزل: كيف نطالب الأطباء بحماية صحة الشعب… ونحن عاجزون عن حمايتهم؟
هذا النداء ليس مجرد أنين فردي.
إنه صوت وطنٍ يُنذر نفسه بالخطر.
لأن الطبيب ليس مجرد مزوّد خدمة، بل هو جزء من هندسة التوازن الاجتماعي.
 
حين يخاف الطبيب، يختلّ النظام الصحي 
حين يصمت الطبيب، تصمت الحقيقة 
وحين يهرب الطبيب، ينهار الأمل 
إعادة الاعتبار لهذه المهنة ليست ترفاً أخلاقياً، بل ضرورة وطنية.
لا بد من تمثيلية قوية، وأجهزة حماية، ودعم نفسي وقانوني فوري، وحضور إعلامي لا يسمح بتجاهل أي اعتداء، ونقابة أو مجلس قادر على حمل الجرح أمام الرأي العام.
لا بد من فهم بسيط، عميق، وقاس: الطبيب الذي يعمل وهو خائف… لا يعالج، بل يحاول أن ينجو.
والبلد الذي لا يحمي أطباؤه… يمشي نحو مرضٍ لن يجد من يصف له دواء.
صرخة هذه الطبيبة ليست قصة.
إنها صفعة.
مرآة مرفوعة أمام المجتمع المغربي ليواجه نفسه بلا تجميل.
مجتمع يريد إصلاح الصحة، ويريد استرجاع الأطباء الذين يهاجرون، ويريد مدارس طب أقوى، ومستشفيات أفضل.
لكن البداية الحقيقية أبسط مما نعتقد: حماية من يداويك… قبل أن تطلب منه أن يداوي وطنك.
 
الدكتور أنور الشرقاوي  /خبير في التواصل الطبي والإعلام  الصحي