ملخص
نحاول في هدا هذا المقال تحليل التحوّلات المتناقضة في الموقف الجزائري من خلال حالتين دالّتين: الامتناع عن التصويت على القرار الأممي رقم 2797 المتعلق بالصحراء المغربية (31 أكتوبر 2025)، والتصويت الإيجابي على القرار 2803 بشأن إنشاء قوة دولية مؤقتة في قطاع غزة (17 نوفمبر 2025). ويستند التحليل إلى مفهومي العار السياسي والعار الدبلوماسي بوصفهما إطارًا لفهم أزمة الاتساق القيمي في السياسة الخارجية الجزائرية. ويخلص المقال إلى أنّ الجزائر تعيش حالة ازدواجية معيارية بين خطاب تحرّري تعلن التمسك به، وممارسات دبلوماسية تناقضه، ما أدى إلى تآكل مصداقيتها وظهور فجوة بين الدولة والمجتمع، بحيث يبقى الشعب الجزائري خارج دوائر العار السياسي، محتفظًا بصفائه الأخلاقي، في مقابل سلطة تُراكِم تناقضاتها في المحافل الدولية .
المفاتيح
الجزائر – السياسة الخارجية – الصحراء المغربية – غزة – مجلس الأمن – العار السياسي – العار الدبلوماسي – الشرعية الدولية.
مقدمة
تُعدّ السياسة الخارجية الجزائرية إحدى أكثر السياسات إثارة للجدل في العقدين الأخيرين، خصوصًا في ما يرتبط بقضية الصحراء المغربية. فالموقف الجزائري يتأسس – نظريًا – على دعم “حق تقرير المصير”؛ غير أن التطبيق العملي يُظهر انحيازًا سياسيًا حادًا يتجاوز المبدأ الأخلاقي إلى استراتيجية استنزاف إقليمي طويلة الأمد. وتكثّف هذا التوتر مع اعتماد مجلس الأمن القرار الذي كرّس مرّة أخرى مركزية مبادرة الحكم الذاتي المغربية كحلّ واقعي للنزاع.
في المقابل، جاء تصويت الجزائر لصالح القرار المتعلق بإنشاء قوة دولية في غزة ليكشف مفارقة استراتيجية–أخلاقية عميقة، إذ بدا الخطاب التحرّري الذي لطالما تبنّته الدولة في تضاد صريح مع موقفها العملي من قضية فلسطين.
هنا يظهر مفهوم العار السياسي بوصفه توصيفًا علميًا لخلل أخلاقي تتعرض له الدولة عندما تتناقض ممارساتها مع مبادئها المؤسسة، ويتحول – عندما يتجسّد في الممارسة الدبلوماسية الدولية – إلى عار دبلوماسي موثق في سجلات التصويت الأممية.
الإطار المفاهيمي: العار السياسي والعار الدبلوماسي
يُعرَّف العار السياسي بأنه لحظة انهيار في الاتساق القيمي للفاعل السياسي؛ حين تتعارض الممارسات مع المبادئ المُعلنة، فتظهر الدولة بمظهر المنفصمة أخلاقيًا أمام مواطنيها.
أمّا العار الدبلوماسي فيشير إلى انتقال هذا الخلل الأخلاقي من الداخل إلى الخارج، أي حين تتجسّد التناقضات في سجلات التصويت الأممية والمواقف الرسمية داخل المنظمات الدولية، بما يؤدي إلى تآكل رأس المال الدبلوماسي للدولة وفقدانها للشرعية الأخلاقية (Keohane 2020; Bukovansky 2022).
في الحالة الجزائرية، يُعدّ فهم العلاقة بين هذين البعدين – الداخلي والخارجي – مدخلًا ضروريًا لتحليل سياستها في ملفّي الصحراء المغربية والقضية الفلسطينية.
المأزق الأخلاقي وازدواجية المعايير في السياسة الخارجية الجزائرية
- قرار مجلس الأمن رقم 2797 (31 أكتوبر 2025): الدلالات وردود الفعل الجزائرية
اعتمد مجلس الأمن القرار S/RES/2797 (2025) الذي:
- يُجدد ولاية MINURSO حتى 31 أكتوبر 2026؛
- يدعم بشكل صريح حلّ الحكم الذاتي المغربي بوصفه إطارًا واقعيًا وعمليًا لإنهاء النزاع؛
- يدعو الأطراف إلى السير في مفاوضات “واقعية وبراغماتية”؛
- ويُسجل “عدم تعاون بعض الأطراف” في إشارة واضحة للموقف الجزائري.
أمام هذا التطور، مارست الجزائر كل أشكال الضغط لمنع صدور القرار بصيغته النهائية، لكنها فشلت في التأثير على الاتجاه العام داخل مجلس الأمن .وقد كشفت مصادر أممية وإعلامية أن الجزائر اختارت عدم التصويت لتجنب تسجيل موقف معارض بشكل مباشر، ما عزز صورة الدولة التي تعجز عن مواجهة الإجماع الدولي.
هذا العجز يُعدّ في حد ذاته علامة عار دبلوماسي لأنه يُظهر ازدواجية الخطاب وضعف القدرة التأثيرية.
- القرار الأممي حول غزة: حدود الخطاب التحرّري الجزائري
اعتمد مجلس الأمن القرار S/RES/2803 (2025) في 17 نوفمبر 2025، والذي نصّ على:
- إنشاء قوة دولية مؤقتة لتحقيق الاستقرار في غزة.
- إنشاء مجلس سلام كهيئة انتقالية لإدارة القطاع.
- صلاحية استخدام “جميع التدابير الضرورية”، بما في ذلك نزع سلاح الفصائل غير الدول.
و تجدر الاشارة الي ان العديد من التحليلات القانونية (M. Moussa, 2025) تكشف أن القرار يفتح الباب أمام “وصاية أممية” مؤقتة تُقيد حق تقرير المصير الفلسطيني، وربطه مباشرة بخطة أمريكية
لقد جاء تصويت الجزائر لصالح إنشاء قوة دولية مؤقتة في غزة ليكشف مفارقة عميقة، خصوصًا بعد رفض فصائل فلسطينية رئيسية لهذا القرار.فبينما بنت الجزائر عقودًا من شرعية خطابها على دعم فلسطين، جاءت هذه الخطوة كتنازل جوهري أمام الضغط الدولي.
وأصبح السؤال المشروع: كيف تعارض الجزائر بعنف أي تدخل سلمي في قضية الصحراء المغربية بدعوى “احترام إرادة الشعوب”، بينما تدعم تدخلًا دوليًا مباشرًا في غزة؟
تجليات "العار السياسي" و"العار الدبلوماسي" في السلوك الدبلوماسي الجزائري
يُظهر السلوك الدبلوماسي للجزائر في تعاطيها مع ملفي غزة والصحراء المغربية ما يمكن وصفه بـ "العار السياسي" . ويُستخدم هذا المفهوم للإشارة إلى الحالة التي تتناقض فيها ممارسات الدولة مع المبادئ التي تدّعي الدفاع عنها، مما يؤدي إلى فقدانها للمصداقية الأخلاقية أمام المجتمع الدولي (Keohane, 2020؛ Bukovansky, 2022)
في هذا السياق، يتجلى العار السياسي في الجزائر في تبنّي خطاب مبدئي حول دعم الشعوب وتقرير المصير، في حين يتم تطبيقه انتقائياً وفق حسابات النفوذ الإقليمي. ويشير عدد من الباحثين إلى أن الجزائر تُقدّم نفسها كمدافع “نقي” عن القضايا العادلة، غير أن سلوكها في ملف الصحراء المغربية يُظهر انفصالاً واضحاً بين الخطاب والممارسة، وهو ما يضع سياستها الخارجية ضمن ما يسميه “التناقض الأخلاقي للدول” (Mearsheimer, 2021)
وفي الحالة الجزائرية، يتجلى هذا العار من خلال ثلاثة مظاهر رئيسية:
التوظيف الانتقائي للقيم والمبادئ.
إذ تقدّم الدولة نفسها كحاملة لمشروع “تحرري” ومدافعة عن حق الشعوب في تقرير مصيرها، لكنها تجعل من هذا المبدأ أداة أيديولوجية توظَّف حسب مقتضيات الصراع الإقليمي، لا قاعدة أخلاقية ثابتة.
1- تآكل المصداقية الداخلية.
التناقض بين الخطاب التحرري والممارسة السياسية يُنتج حالة من الشك الشعبي في صدقية المواقف الرسمية، ما يضعف شرعية السلطة ويجعل خياراتها الخارجية موضع مساءلة اجتماعية وأخلاقية.
1 القطيعة مع الإرث التاريخي.
الدولة التي بنت مشروعيتها على سردية مقاومة الاستعمار تجد نفسها اليوم في موقع يمارس انتقائية سياسية بعيدة عن روح هذا الإرث، الأمر الذي يولّد شعورًا جمعيًا بأن الخطاب التحرري لم يعد مصدرًا للسلوك السياسي، بل غطاءً ظرفيًا للتموقع الإقليمي.
وبذلك، يصبح العار السياسي الداخلي مؤشرًا على أزمة شرعية بنيوية وعلى غياب الاتساق بين القيم المعلنة ومنطق الدولة الفعلي
أما العار الدبلوماسي، فيبرز في مواقف تُظهر الدولة بمظهر المتناقض أو العاجز عن الالتزام بخط واحد أمام المؤسسات الدولية. فالتصويت لصالح مشاريع قرارات أمريكية حول غزة، ثم رفض القرار 2797 (2025) حول الصحراء المغربية لمجرد كونه يُقوّي مقترح الحكم الذاتي، يُجسّد ما تسميه الدراسات الدولية “الانتقائية المعيارية”، أي توظيف القانون الدولي حين يخدم المصلحة وتجاهله حين يعارض الحسابات السياسية (Finnemore & Sikkink, 2020)
وتذهب تحليلات أخرى إلى أن هذا النوع من السلوك يُعرّض الدولة إلى “فقدان رأس المال الدبلوماسي” (Diplomatic Capital Erosion)، وهو أحد أشكال العار الدبلوماسي، لأنه يكشف هشاشة خطابها أمام حلفائها وخصومها على حد سواء . ففي اللحظة التي تظهر فيها الجزائر مرونة عالية في التعامل مع القرارات الأمريكية في غزة، ثم تصلباً غير واقعي أمام قرار أممي يتعلق بالصحراء، تصبح عرضة لانتقادات المجتمع الدولي ولانطباع مفاده أن سياستها الخارجية غير مبدئية بل ظرفية.بحيث يصبح الانفصام السياسي جزءًا من الذاكرة الدبلوماسية العالمية.
ويتجلّى هذا العار "العار الدبلوماسي" في السلوك الدبلوماسي الجزائري عبر ثلاثة مستويات:
ظهور التناقض في السلوك الأممي.
إذ تُسجّل الجزائر مواقف متعارضة يصعب تبريرها ضمن مرجعية واحدة؛ فتعطيلها لمحاولات الدفع بقرار مجلس الأمن رقم 2797 (31 أكتوبر 2025) الداعم للحكم الذاتي في الصحراء، يقابله تصويتها لصالح تدويل الوضع في غزة ودعم نشر قوة دولية فيها، في تجاهل تام لاعتبارات السيادة الفلسطينية.
تنامي العزلة الدبلوماسية.
المواقف غير المتسقة تُضعف قدرة الدولة على بناء تحالفات مستقرة، وتدفعها إلى موقع دفاعي داخل المؤسسات الدولية، ما يُقلل من وزنها التفاوضي ويحدّ من تأثيرها الإقليمي.
تحوّل التناقض إلى وصمة دبلوماسية.
حين تُوثَّق هذه المواقف في سجلات الأمم المتحدة، تتحول إلى ما يمكن تسميته بـ"السمعة الدبلوماسية السلبية"، وهي إرث يصعب تجاوزه لأنه غير مرتبط بالأشخاص بل بنمط ثابت في صناعة القرار.
استثناء الشعب الجزائري من العار السياسي والدبلوماسي
من المهم التمييز بين العار الذي تتحمله الدولة الجزائرية وبين موقف الشعب الجزائري. فالشعب يظهر وعيًا كبيرًا بالقيم الأخلاقية والعدالة الدولية.تُظهر الدراسات الاجتماعية واستطلاعات الرأي الشعبي أن غالبية الجزائريين لا تتفق مع ازدواجية المواقف الرسمية، بل يطالبون بسياسة خارجية أكثر اتساقًا وشفافية (Boukhars, 2022; Lowi, 2021)كما تنظم منظمات المجتمع المدني، مثل Forum Civil Maghrébin وRéseau Maghreb Citoyen، حملات تضامن مع الشعوب المستضعفة، ما يبرز الفرق بين الحكومة والمجتمع المدني. إضافة إلى ذلك، فإن وسائل الإعلام المستقلة في الجزائر كثيراً ما تنتقد ازدواجية الموقف الرسمي، وتؤكد على أن الشعب الجزائري ليس متفقاً بالضرورة مع سياسات الحكومة في الملفات الدبلوماسية، وهو ما ينعكس في الحملات النقابية والمدنية التي تطالب بمواقف أكثر اتساقاً وواقعية. يمكن القول إذن إن هذا العار السياسي والدبلوماسي لا يمثل الشعب الجزائري، بل يعكس حصراً الحسابات الرسمية للدولة والمصالح الإقليمية، وهو ما يضع الشعب الجزائري في موقع مراقب وناقد، ومضطر أحياناً للتعامل مع ازدواجية المواقف التي لا تتماشى مع قيمه وأخلاقياته.
بناءً على ذلك، فإن هذا التمييز يسمح بتحليل أعمق للمشهد السياسي: فالدولة قد تواجه فقدان مصداقية دولية، بينما يظل الشعب الجزائري، عبر وعيه المدني والاجتماعي، قوة أخلاقية مستقلة يمكن أن تؤثر في المستقبل على شكل السياسات الخارجية إذا ما تم تمثيله ومشاركته في اتخاذ القرارات. .
تبعات العار على السياسة الخارجية الجزائرية
ان هدا السلوك الدبلوماسي المتناقض للجزائريمكن ان يكون له عدة تبعات نلخصها كالتالي:
تآكل المصداقية الدولية
ازدواجية المواقف الجزائرية تُضعف مصداقيتها على المستوى الدولي. فالانخراط الانتقائي في القرارات الأممية، مع تبني مبادئ حقوق الشعوب في بعض القضايا وتجاهلها في أخرى، يقلّل من قدرة الدولة على تقديم نفسها كطرف مبدئي وموثوق به أمام شركاء دبلوماسيين. وفقًا لتحليلات خبراء العلاقات الدولية، الدول التي تمارس هذا النوع من الانتقائية غالبًا ما تواجه صعوبة في فرض مواقفها في المحافل الدولية، ويصبح صوتها أقل تأثيرًا عند صياغة القرارات الحاسمة.
عزل دبلوماسي محتمل
مع تحول مجلس الأمن والأوساط الدولية نحو دعم الحل السياسي القائم على الحكم الذاتي المغربي، يزداد احتمال عزل الجزائر دبلوماسيًا إذا استمرت في رفض الانخراط البنّاء. هذا العزلة المحتملة قد تحد من قدرة الجزائر على المشاركة في مسارات الحوار الإقليمي والدولي، وتتركها خارج المبادرات المهمة المتعلقة بالأمن والاستقرار في شمال أفريقيا.
ضغط داخلي متزايد
استمرار استخدام قضية الصحراء المغربية كأداة ضغط إقليمي لم يعد مستدامًا في ظل التحولات الدولية لصالح المغرب. هذا الوضع يولد توترات داخلية، حيث يطالب المجتمع المدني ووسائل الإعلام المستقلة بإعادة النظر في النهج السياسي للدولة، ويزيد من الفجوة بين الحكومة والشعب. الضغط الداخلي قد يتجسد أيضًا في مطالب شعبيّة لمزيد من الشفافية والمصداقية في السياسة الخارجية، بما يفرض على الجزائر إعادة تقييم أولوياتها الدبلوماسية .
خلاصة
وعليه، يكتسب مفهوما العار السياسي والعار الدبلوماسي مشروعيتهما الأكاديمية في تحليل الحالة الجزائرية حين نضع مواقف الدولة ضمن إطار المقارنة بين الخطاب المعلن والممارسة الفعلية، وبين الالتزامات الأممية التي تتبناها والاختيارات الانتقائية التي تنتهجها داخل مجلس الأمن. هذا التناقض هو الذي يجعل الموقف الجزائري نموذجاً للدول التي تواجه تحدياً في التوفيق بين خطاباتها الأخلاقية وسلوكها الواقعي، وهو ما يؤدي إلى تآكل مصداقيتها كفاعل دبلوماسي مسؤول في النظام الدولي.
ويبقى الشعب الجزائري، تاريخًا وقيمًا وموقفًا، خارج دائرة هذا العار، محتفظًا بموقعه الأخلاقي كفاعل يحافظ على مبادئ التحرّر ويحمل ذاكرة المقاومة، بينما تُسجِّل السلطة السياسية تناقضاتها في السجلات الأممية، في انتظار لحظة مراجعة تعيد الاتساق إلى السياسة الخارجية وتُبلور رؤية تستجيب لمصالح الدولة والشعب معًا
المراجع
- United Nations Security Council, Resolution 2797 (2025).-
- United Nations Security Council, Resolution on the Temporary International Force in Gaza (2025).
- Embassy of Algeria, Beijing. “Argument on the content of Security Council Resolution S/RES/2797 (2025) renewing the mandate of MINURSO.” بيان وزارة الخارجية الجزائرية. embbeijing.mfa.gov.dz
- Konrad-Adenauer-Stiftung. Resolution 2797: A historic step in the Sahara conflict. Konrad Adenauer Stiftung
- Morocco World News. “UN Security Council Votes on Resolution 2797 Recognizing Autonomy Plan as Genuine Solution.” Morocco World News
- Morocco World News. “UN Security Council Resolution 2797 … Legal and Diplomatic Implications for International Law.” Morocco World News
- European Lawyers for Democracy and Human Rights (ELDH). “Statement on UN
- Zoubir, Y. H. (2010). The Sahara Conflict and the Future of Maghreb Regional Integration.
- Martinez, L. (2012). The Algerian State and the Politics of Regional Rivalry.
- Arendt, H. (1963). Eichmann in Jerusalem: A Report on the Banality of Evil.
- Amnesty International. Algeria Human Rights Reports (2023–2024)
- Boukhars, A. (2022). Autonomy and realism in the Western Sahara peace process. International Affairs.