Thursday 30 October 2025
Advertisement
كتاب الرأي

عبد العزيز الخبشي: المادة 51 المكرّرة.. بين حماية النزاهة الانتخابية وتكميم الأصوات

عبد العزيز الخبشي: المادة 51 المكرّرة.. بين حماية النزاهة الانتخابية وتكميم الأصوات عبد العزيز الخبشي
تشكل المادة 51 المكررة من القانون التنظيمي رقم 27.11 لحظة مفصلية في العلاقة بين الفضاء الرقمي والممارسة السياسية بالمغرب. فهي تنص على عقوبات حبسية وغرامات مالية تصل إلى مائة ألف درهم، لكل من يبث أو يوزع محتوى رقميا أو سمعيا بصريا يتضمن أقوالا أو صورا لأشخاص دون موافقتهم، أو ينشر “أخبارا زائفة” أو “إشاعات” تمس الحياة الخاصة أو سمعة المترشحين أو الناخبين، سواء عبر وسائل الإعلام أو شبكات التواصل الاجتماعي أو أدوات الذكاء الاصطناعي. للوهلة الأولى، تبدو المادة محاولة لتأمين نزاهة العملية الانتخابية وحماية الأشخاص من التشهير الرقمي، لكنها في العمق تثير أسئلة عميقة حول حدود حرية التعبير، وطبيعة الرقابة السياسية على الفضاء العام.
 
من الناحية الحقوقية، يفترض أن أي تشريع يمس حرية التعبير يجب أن يتقيد بالمعايير الدستورية والمواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب، وعلى رأسها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي يكفل حرية الرأي والتعبير كحق أصيل، لا يقيَّد إلا بشروط دقيقة ومحددة. غير أن المادة 51 المكررة تستعمل مفاهيم فضفاضة من قبيل "نشر أخبار زائفة" أو "المساس بالحياة الخاصة" أو "التشكيك في نزاهة الانتخابات"، دون تحديد دقيق لمعايير التمييز بين الرأي المشروع والمعلومة الكاذبة، أو بين النقد السياسي والمساس بالسمعة. هذه الصياغة الغامضة تفتح الباب واسعا أمام التأويل التعسفي، وتمنح السلطة التقديرية للقضاء أو الإدارة لتجريم آراء أو مواقف سياسية تحت ذريعة “محاربة الأخبار الزائفة”.
 
سياسيا، تأتي هذه المادة في سياق إقليمي ودولي يتسم بتنامي توظيف الفضاء الرقمي في التأثير على الرأي العام، وتزايد حملات التشهير والتضليل خلال الاستحقاقات الانتخابية. غير أن الخطورة في الحالة المغربية تكمن في توظيف هذا التخوف الواقعي لتبرير تضييق رقابي على الفاعلين السياسيين والنشطاء الرقميين، خصوصا أولئك الذين يستخدمون المنصات الاجتماعية لمساءلة المرشحين وكشف الفساد أو الانتهازية السياسية. فبدل أن تكون المادة آلية لضمان شفافية المنافسة، يمكن أن تتحول إلى سيف مسلط على كل صوت نقدي يفضح الانحرافات الانتخابية أو يعبر عن شكوك مشروعة في نزاهة المسار.
 
من جهة أخرى، تثير المادة تعارضا ضمنيا مع روح الدستور المغربي لسنة 2011، الذي جعل من حرية التعبير والصحافة ركنا من أركان المجتمع الديمقراطي، وربطها بمسؤولية قائمة على الضمانات القانونية وليس العقوبات الزجرية. فالتجريم الواسع للخطاب الرقمي، في سياق سياسي ما زال يتلمس طريقه نحو الديمقراطية الحقيقية، يعكس نزعة نحو “ضبط المجال العمومي” أكثر مما يعكس رغبة في حماية الحقوق. إذ بدل التركيز على التربية الإعلامية، وتمكين المواطنين من التحقق من الأخبار ومواجهة التضليل بالشفافية والمعلومة الرسمية، تلجأ السلطة إلى المقاربة العقابية التي تكرس ثقافة الخوف الذاتي من التعبير.
 
وهنا يطرح السؤال الجوهري: هل سيتم الاعتراض على هذه المادة من طرف المحكمة الدستورية بدعوى عدم دستوريتها وعدم مطابقتها لروح ومضمون الدستور المغربي؟

الإجابة تبقى رهينة بمدى استقلالية القضاء الدستوري وقدرته على حماية الحقوق والحريات التي يكفلها الدستور. فالمحكمة الدستورية، وفقا لاختصاصاتها، ملزمة بمراقبة مدى احترام القوانين التنظيمية لمقتضيات الدستور وخاصة الفصول التي تضمن حرية التعبير والحق في المعلومة والمشاركة السياسية. وبالنظر إلى الصياغة الفضفاضة للمادة 51 المكررة، واحتمال استخدامها لتكميم الأصوات المنتقدة، يمكن الدفع بعدم دستوريتها على أساس مخالفتها للفصلين 25 و28 من الدستور، اللذين يضمنان حرية الفكر والرأي والتعبير بكل أشكاله، ويقران بأن حرية الصحافة لا يمكن تقييدها بأي شكل من أشكال الرقابة المسبقة.

 إن احتمال الطعن في هذه المادة أمام المحكمة الدستورية قائم موضوعيا، لكنه يظل رهينا بميزان القوى بين منطق السلطة ومنطق الحقوق، وبمدى جرأة الفاعلين الحقوقيين والسياسيين في تفعيل هذا المسار الدستوري.
 
أما من الزاوية الحقوقية البحتة، فالمادة تطرح إشكالية التناسب بين الفعل والعقوبة. فالحبس من سنتين إلى خمس سنوات والغرامة الثقيلة لا يتناسبان مع طبيعة الجرائم الرقمية ذات الطابع التعبيري، خاصة وأن المشرع المغربي نفسه سبق أن تبنى في قوانين سابقة مبدأ إلغاء العقوبات السالبة للحرية في قضايا الصحافة. إن إعادة إدخالها عبر بوابة “القانون الانتخابي” تمثل تراجعا تشريعيا يمس بمكتسبات حرية التعبير ويعيد منطق الزجر بدل الإقناع.
 
إن جوهر الديمقراطية لا يقوم على كبت الشكوك بل على ضمان حق المواطنين في التعبير عنها، ومتى حظر التشكيك في نزاهة الانتخابات، حظر النقد ذاته. فالنزاهة تبنى بالشفافية والثقة، لا بالخوف والعقوبة. كما أن مواجهة “الأخبار الزائفة” لا تكون عبر السجون، بل عبر بناء ثقافة الحق في الوصول إلى المعلومة، وتحصين الإعلام العمومي من التوظيف السياسي، وإشراك المجتمع المدني في مراقبة الخطاب الانتخابي.
 
ومن هنا تكشف المادة 51 المكررة عن توجه مزدوج: ظاهره حماية العملية الانتخابية، وباطنه ضبط الخطاب العام وتقييد النقد السياسي. إنها تعبير عن صراع خفي بين منطق الدولة المتحكمة ومنطق المواطنة الواعية. وبينما تشرعن السلطة الرقابة باسم حماية السمعة والنزاهة، تفرغ حرية التعبير من مضمونها العمومي. ولذلك، فإن الدفاع عن الحقوق الرقمية والحريات السياسية في المغرب يمر اليوم عبر نقد مثل هذه المواد التي تحيل الأمن الانتخابي إلى ذريعة لتأبيد الصمت العام.