Thursday 30 October 2025
Advertisement
خارج الحدود

كازان.. نشيد التعايش ومرآة الحضارة

كازان.. نشيد التعايش ومرآة الحضارة جواد التويول
كانت الرحلة من موسكو إلى كازان ضمن الجولة الصحفية للصحفيين العرب تزامنا مع انعقاد القمة الروسية العربية الأولى أكثر من مجرد انتقال في الجغرافيا؛ كانت عبورًا نحو معنى آخر للحياة. على متن قطار روسي انيق، أمضينا عشر ساعاتٍ من السحر الهادئ، يخترق خلالها القطار غاباتٍ تمتد بلا نهاية، وأنهارًا فضية تنساب بين القرى، ومزارع نائمة تحت نسمات الخريف. كان المشهد كأن الطبيعة الروسية تتلو علينا قصيدتها الأولى، بصوتٍ خافتٍ لا يُنسى.
 
 
 
وحين وصلنا كازان، أحسسنا أننا أمام مدينةٍ تنبض بتناسقٍ نادر بين الماضي والمستقبل. هنا، حيث تلتقي المآذن بالقباب، ويصافح الشرقُ الغربَ برهافةٍ وتسامح، تدرك أن الحضارة ليست حجارةً تُشيَّد، بل روحًا تُبنى.
 
في أحد المعارض الصناعية التي نظمت عرضا لمنتوجات صناعية بمناسبة الجولة الصحفية للصحفيين العرب تجلّت لنا تتارستان كقوةٍ هادئة تصنع مجدها بيدها. مصانع حديثة، مركبات، شاحنات، مروحيات ومعدات طبية تحمل توقيع "كازان"، تحكي قصة جمهورية جعلت من الابتكار أسلوب حياة، ومن العمل عقيدةَ نهوض. كانت الدقة والذكاء الصناعي يختزلان سرّ التقدم في هذا الجزء المضيء من روسيا.
 
وفي جامعة كازان العريقة، وقفنا أمام صرحٍ علميٍّ يليق بتاريخ المدينة العالِمَة. بين قاعاتها المضيئة ومخابرها المتطورة، يزرع الطلبة بذور المستقبل، في جوٍّ من الانفتاح والتنوع الثقافي. بدا العلم هنا كأنه جسر آخر للتعايش، يربط العقول كما تربط المآذن القلوب.
 
 
 
اللقاء مع وزيرة الاستثمار ومستشار رئيس جمهورية تتارستان كشف لنا عن رؤيةٍ اقتصاديةٍ طموحةٍ تجمع بين الواقعية والطموح. أرقام النمو، الحوافز الاستثمارية، وحجم الصادرات نحو الخارج كلها دلائل على أن تتارستان لا تكتفي بالتنمية، بل ترسم طريقها نحو الريادة بهدوء وثقة.
 
وتكريسا للبعد الروحي، حملتنا الزيارة إلى مسجد "قدشريف" الشهير إلى عالمٍ من السكينة والجلال. مآذنه البيضاء تعانق السماء، وزخارفه المائية تروي جمال الفن الإسلامي في أنقى تجلياته. وعلى بُعد خطواتٍ قليلة، تقف كاتدرائية كازان شامخةً، في مشهدٍ نادرٍ يجسّد التعايش الديني بأبهى صوره. هنا، يلتقي صوت الأذان برنين الأجراس في تناغمٍ يروي قصة أمةٍ اختارت أن تجعل من الاختلاف مصدر غنى لا صراع.
 
في المساء، كان للموسيقى التتارية وقعها الخاص. أنغامٌ تخرج من قلب السهوب، تعانق ذاكرة الأرض وتستدعي دفءَ الناس. والمطبخ التتاري، بنكهاته المتعددة التي تمزج الشرق بالغرب، بدا كأنه امتدادٌ لروح المدينة المتصالحة مع تنوعها.
 
رحلتنا إلى كازان لم تكن مجرد زيارةٍ صحفية، بل تجربة إنسانية عميقة. هناك، على ضفاف الفولغا، أدركنا أن الجمال لا يقيم في العمارة ولا في التكنولوجيا فحسب، بل في الطريقة التي يعيش بها الإنسان مع غيره، ومع نفسه، بسلامٍ واعتزازٍ بالحياة.