Monday 15 September 2025
مجتمع

من روح المسيرة الخضراء إلى فعل مدني معاصر : جامعة الشباب بأصيلة

من روح المسيرة الخضراء إلى فعل مدني معاصر : جامعة الشباب بأصيلة التكوين بالقيم هو الجانب التربوي المعرفي، الذي يعمل على بناء وعي الشباب بتاريخهم المجيد
الأجيال تنسى أمجادها مالم يتم تذكيرها بصيغ مبتكرة...بالفن والثقافة والفعل المدني التربوي، الدرس المدرسي يظل عاجزا عن بناء قيم وطنية لطبيعته المعرفية مهما راهن على التربية بالقيم... المسيرة ليست مجرد حدث للتحرير السلمي... إنها مدرسة جمعت كل قيم الوطنية.

من هنا أتت قناعة المرصد المغربي لنبذ الإرهاب والتطرف، لتنظيم جامعة للشباب حتى لا ننسى... لأننا ضد النسيان... فكما رفضنا نسيان أحداث 16 وجعلنا الذاكرة قوة لمواجهة التطرف، قررنا أن نستثمر في " ذاكرة المسيرة الخضراء" لتقوية التماسك الاجتماعي، والوطنية، فبدون وطنية... وتماسك... نفقد أهم سلاح في مواجهة التطرف... والإرهاب  والكراهية... بذاكرة الأمجاد نبني جيلا يحمل وطنه أينما حل.

فالذكرى الخمسون للمسيرة الخضراء ليست مجرد حدث عابر في تاريخنا ...بل محطة تتجاوز مجرد استحضار حدث تاريخي إلى تأمل نموذج متكامل في الفعل الجماعي، حيث تندمج الإرادة السياسية مع النبض الشعبي في نسق واحد، ليرسم مساراً استثنائيا في استعادة الحق وتجسيد السيادة. في هذا الإطار، يأتي تنظيم المرصد المغربي لنبذ الإرهاب والتطرف لفعاليات "جامعة الشباب" بأصيلة، تحت شعار "نصف قرن في الدفاع عن سيادة المغرب على صحرائه: ملكية مكافحة وشعب موحد وراءها"، ليس مجرد نشاط احتفالي، بل هو فعل مدني عميق يستلهم روح المسيرة ويحاول تنزيل مقاصدها القيمية والتنظيمية على واقع الحاضر والمستقبل. 

إنه محاولة لاستنبات بذرة ذلك التلاحم التاريخي في تربة جيل جديد، عبر مشروع يرتكز على مزاوجة فريدة بين التكوين بالقيم والتدبير بالقيم، مما يجعله نموذجاً يستحق القراءة والتحليل.
تتجلى عبقرية النموذج المغربي الذي  تؤمن به قيادات المرصد في قدرته على تحويل القيم المجردة – كالوحدة والانتماء والتضحية – إلى طاقة حركية منظمة، أي تحويل "القيمة" إلى "فعل" و"الوجدان" إلى "إستراتيجية". وهذا بالضبط ما جسّدته المسيرة الخضراء في أبهى صورها: لم تكن مجرد تعبير عاطفي عن الحب للوطن، بل كانت مشروعاً مدنياً ممنهجاً بكل مقاييس التدبير الحديث، جمع بين التخطيط الاستراتيجي الدقيق وتعبئة الموارد البشرية الهائلة وتوجيهها ضمن رؤية واضحة المعالم. لقد كانت "قيمة" السيادة هي الحافز والهدف، بينما كان "التدبير" المحكم هو الآلية التي حققتها بكل كفاءة ونجاح.
 
 

 من هذا المنطلق، فإن "جامعة الشباب" التي نظمها المرصد عملت على استعادة هذه المعادلة الذهبية نفسها، ولكن في سياق مختلف وتحديات مغايرة. فإذا كانت التحديات آنذاك تتعلق بالاستعمار والحدود، فإن التحديات اليوم تتمثل في غزو الأفكار الهدامة، والتطرف، ومسخ الهوية، وزعزعة الثوابت الوطنية عبر الفضاءات الرقمية المفتوحة.

ولذلك، فإن مشروع المرصد لا يكتفي بالمقاربة المدرسية التقليدية للقيم، بل يتبنى مقاربة شمولية تزاوج بين "التكوين بالقيم" و"التدبير بالقيم". فالتكوين بالقيم هو الجانب التربوي المعرفي، الذي يعمل على بناء وعي الشباب بتاريخهم المجيد، ويغرس فيهم الاعتزاز بثوابت الأمة ورموزها، ويحصنهم فكريا ضد خطابات الكراهية والتشكيك. هذا التكوين تم عبر وسائط متعددة ومبتكرة في "الجامعة"، كالندوات الفكرية التي تعيد قراءة حدث المسيرة بمنظور تحليلي نقدي، والعروض الوثائقية التي تحول التاريخ إلى سردية بصيرة مؤثرة، والورشات الفنية التي تعبر عن المشاعر الوطنية بلغة الجمال والإبداع. إنه عملية بناء "الإنسان المغربي" الذي يعرف من أين جاء، وإلى أين يمضي، ولماذا يقاتل.
 
أما "التدبير بالقيم"، فهو الجانب التطبيقي العملي الذي يحوّل تلك القيم التي تم تبنيها إلى ممارسات وسلوكيات ومشاريع قابلة للقياس والتقويم. فهو يتجلى في كيفية إدارة الفعاليات نفسها، والتي أصبحت عبارة عن مجتمع مصغر يُمارس فيه الشباب قيم المواطنة الفاعلة: الحوار، والتسامح، والعمل الجماعي، والمبادرة، والمسؤولية. 
إن ورشات إنتاج المحتوى الرقمي، على سبيل المثال، ليست مجرد تدريب تقني، بل هي تدريب على "تدبير" المعركة الثقافية بقيم الحق والصدق والجمال، لمواجهة خطاب الكراهية والتطرف. إن الشباب هنا لا يتعلموا  الوطنية ، بل "ليمارسوا" الوطنية بشكل عملي من خلال إنتاج خطاب بديل، وخطاب دفاع عن الوحدة الترابية بأساليب عصرية. وهنا تكمن القوة النوعية للمشروع: تحويل الشباب من متلق سلبي لخطاب الوطنية إلى فاعل مدني بوعي وطني، ينتج خطابا ويمتلك أدوات التأثير والتغيير.

وفي هذا السياق، أكدت رشا قمار، مديرة الجامعة، على البعد التأسيسي لهذه المبادرة حين صرحت: "جامعة الشباب... مدخلاتها هي القيم التي يترافع عنها المرصد المغربي لنبذ الإرهاب والتطرف منذ نشأته، لكن هذه المحطة أردناها بوعي تاريخي وطني، لتمنيع الشباب فكرا  وقيما ووجدانا ضد دعاوى مزيفة تشكك بالمكتسبات. إنها جامعة تؤسس لفهم عملي مدني بالرهانات الوطنية الكبرى، لكن بوعي تاريخي يحول الأمجاد إلى بوصلة للفعل الشبابي والترافع الدولي والانخراط في عملية تجسير الماضي بالحاضر... حيث تصبح المسيرة دينامية مستمرة في الوجدان والتنمية وربح التحديات". هذا التصريح يختزل جوهر المشروع: تحويل الوعي التاريخي من حالة التذكر إلى حالة الفعل، ومن الاحتفاء بالذاكرة إلى الانخراط في صناعة المستقبل. فليس الهدف هو استحضار أمجاد الماضي فقط، بل تحويلها إلى وقود لإلهام المبادرات الشبابية المعاصرة، وإلى حجة حية في الخطاب الدولي الداعي لسيادة المغرب على صحرائه، وإلى جسر يربط بين تضحيات الأمس وطموحات الغد.

يمكن التأكيد  على أن المسيرة الخضراء بمثابة "النموذج الأصلي"  القيمي الذي استلهمت منه جامعة  الشباب  للمرصد رمزية فعالة لا استذكارية،  فالمسيرة لم تكن مجرد مسيرة، بل كانت "مدرسة وطنية متنقلة" تخرج منها ملايين المغاربة وقد تعلموا أسمى قيم الانضباط والتضحية والتلاحم. إن استحضار هذا الحدث في فعاليات الجامعة هو استحضار لهذه "المدرسة" ولهذا "النموذج" في التغيير السلمي المنظم. إنه استدعاء لروح الجماعة التي تتجاوز الفردية، وللإرادة التي تتحدى المستحيل، وللتدبير الذي يحول الطاقات الشعبية الهائلة إلى قوة ناعمة منتصرة. بمعنى آخر، فإن "جامعة الشباب" أصرت أن تكون "مسيرة خضراء" ثقافية فكرية في عصرها، تواجه التحديات المعاصرة بنفس الروح ونفس العقلية التنظيمية، ولكن بأدوات العصر.