تحل يوم الخميس 11شتنبر الجاري، الذكرى 27 لرحيل محمد الحيحي، مربي الأجيال وأحد رواد الحركة التطوعية الوطنية الرئيس الأسبق للجمعية المغربية لتربية الشبيبة المعروفة اختصار بلاميج (AMEJ ) التي تأسست سنة 1956.
محمد الحيحي كان من بين المساهمين في إطلاق مشروع طريق الوحدة سنة 1957، وترأس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان المغربية لحقوق الإنسان AMDH ما بين 1989 و 1992. ولدوره الريادي في الدفاع عن حقوق الإنسان، جرى تكريمه في نيويورك سنة 1991 من طرف منظمة HUMAN RIGHTS WATCH - هيومان رايتس ) الأمريكية.
يختصر مسار محمد الحيحي ( 1928 – 1998 ) تاريخا طويلا، يمكن تلخيصه في ثلاث محطات رئيسة، تتعلق بالتربية والسياسة وحقوق الانسان والمجتمع المدني حيث اضطلع بدور أساسي خاصة في مجال الحركة الجمعوية التي ساهمت في التنشئة الاجتماعية لأجيال عديدة، ورسخت قيم التربية على المواطنة وحقوق الانسان.
رجل الوحدة
من هذا المنطلق ساهم في تأسيس الجمعية المغربية لحقوق الانسان سنة 1979، وإحداث اتحاد المنظمات المغربية التربوية سنة 1991 فضلا عن مساهمته الفعالة في بعث لجنة التنسيق ما بين الجمعية المغربية لحقوق الانسان والعصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان، وهو ما أثمر التوقيع على الميثاق الوطني لحقوق الإنسان سنة 1990 من لدن خمسة منظمات حقوقية. وبما عرف عنه من انتصار للوحدة، عمل دوما على توحيد الجمعيات التربية والشبابية للدفاع عن حقوق الشباب والأطفال وحقوق الانسان وإشاعة قيم التطوع، لاقتناعه على ما يبدو بأن الخصم الواحد لا يمكن أن تنجح كل هيئة بمفردها في الانتصار عليه.
فمن خلال تتبع مساره، فإن نبوغه، ظهر مبكرا منذ مرحلة الطفولة، وترسخ حينما تتلمذ في المراحل الأولى على يد كبار مشايخ عصره، كان من أبرزهم العلامة شيخ الإسلام مولاي محمد بلعربي العلوي. والتحق بعدما أتم تعليمه الأساسي سنة 1940، بثانوية مولاي يوسف العصرية. ونتيجة مشاركته في انتفاضة تلامذة هذه المؤسسة التعليمية، وتعرض للطرد منها في أعقاب تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال سنة 1944.
مسار نضالي
وفى هذا الصدد يحكى رفيق دربه عبد الرحمان اليوسفي ( 1924 – 2020 ) في كلمة بمناسبة الذكرى الاربعينية لرحيله احتضنها مسرح محمد الخامس بالرباط عن بداية علاقته به " عرفته في انتفاضة الجماهير الطلابية الشهيرة في شوارع العاصمة الرباط، عقب تقديم وثيقة الاستقلال، وهو في طليعتها، يندد بسياسة الحماية، ويستنكر الاستغلال والقمع والاستبداد في ظروف كان الصدع بالحق الوطني والمطالبة بالاستقلال، وانخرط هو ما زال تلميذا يافعا، في خلايا الشباب المنضوية تحت لواء الحركة الوطنية، ودخل مدرسة النضال والجهاد من أجل ارساء الديمقراطية والتحرر الفكري والاقتصادي والاجتماعي والسياسي في بابها الواسع".
وكانت الخلايا الشبابية لحزب الاستقلال، مدرسته الثانية التي صقلته، خاصة وأن كفاءته وحنكته أهلته ليكون مقربا منذ البداية من أستاذه وقدوته الشهيد المهدي بن بركة الذي حمله مسؤولية المساهمة في تأهيل شبيبة الحزب، وتكوينهم وتأطيرهم إلى جانب تشجيعه له على الانخراط في سلك التعليم بالمدارس الوطنية الحرة. كما دخل الفضاء الجمعوي، ولعب به دورا أساسيا، رفقة عدد من المناضلين في الحقل الوطني النشيط في التأسيس للجمعية المغربية لتربية الشبيبة أكبر مؤسسة تربوية عرفها المغرب، انتاجية في تكوين أطرها وسلامة مناهجها وأصالة وسمو مبادئ تعاليمها التربوية والأخلاقية، والتي أنجبت أجيالا أعدتها لمواجهة متطلبات الحياة اليومية، كما أهلتها لتكون قادرة على تحمل المسؤوليات التي قد يقتضيها الواجب الوطني في شتى المجالات يوضح اليوسفي.
الحيحى وبنبركة
لقد ظل محمد الحيحي مرتبطا بالاختيارات الفكرية والسياسية والتربوية، الشهيد المهدي بنبركة الذي كان أحد مجسديها ميدانيا.كما واصل جهوده في تكوين الشباب من خلال موقعه كرئيس لجمعية AMEJ ، وفي ذات الوقت، الذي كان يقوم بمهامه الوظيفية بقطاع التربية الوطنية والشبيبة والرياضة الى حين طرده من أسلاك الوظيفة العمومية سنة 1960 مع حرمانه من أجره الشهري، وذلك غداة مشاركته في الاضراب العام، وهو القرار التعسفي الذي جابهه بشجاعة بالتوجه للقضاء ، معتبرا ذلك شططا في استعمال السلطة، وهو ما جعله يكون أول مغربي بعد الاستقلال يتخذ هذه المبادرة الغير مسبوقة في تاريخ القضاء الإداري الوطني، ولتصبح " قضية الحيحي" ، موضوعا رئيسيا كلما جرى الحديث عن الإضراب. وباعتباره مؤسسا وفاعلا رئيسيا في المجتمع المدني، ورائد المدرسة التطوعية بالمغرب بمفهومها النبيل، وجد الحيحي في المجال الحقوقي ملاذا آخر لتجسيد قناعاته بدولة الحق والقانون، إذ بادر رفقة عدد من الحقوقيين إلى تأسيس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان سنة 1979.
ويحسب للحيحي قيد حياته، القيام ببلورة التصورات الدقيقة للعناية بالرأسمال البشري، حيث كان رجل وحدة بامتياز إذ عمل جاهدا في العديد من المحطات، على توحيد جهود تنظيمات الشباب التي تكللت بإشرافه على تأسيس إتحاد المنظمات المغربية التربوية، الذي انتخب رئيسا له إلى غاية سنة 1996، وإحياء اتحاد المغرب العربي للطفولة، بتنظيم لقائين بكل من تونس والمغرب. فضلا عن مساهمته عن تفعيل الإطارات الوحدوية منها لجنة التنسيق ما بين الهيئات الحقوقية، ولجان التضامن مع الشعوب المضطهدة، وعلى الأخص الشعبين الفلسطيني والعراقي.
مبادرة رمزية
فعلى الرغم من انصرام ما يناهز ثلاثة عقود على رحيل محمد الحيحي، فإن القيم التي ناضل قيد حياته من أجلها، تظل في الوقت الراهن، ذاكرة حية ونبراسا يمكن أن تستلهم منها الأجيال المتعاقبة،خاصة في مجال التطوع والتربية والعمل المدني، خاصة في ظل ما يلاحظ من تراجع في منسوب الثقة ليس فقط في تدبير الشأن العام، بل امتد ذلك الى العديد من هيئات الوساطة المدنية ومنها المنظمات والجمعيات، التي أصبحت تتمتع بصلاحيات دستورية وقانونية، وامكانيات مادية وموارد بشرية، بالمقارنة مع مثيلاتها التي كانت في سبعينات وثمانينات القرن الماضي محرومة من هذه الوسائل والامتيازات.
في الوقت الذي تخلد الحركة التطوعية والحقوقية ذكرى رحيل محمد الحيحي الرمز الذي ربط الفعل الحقوقي بالتربية، سيكون مفيدا حفظ ذاكرته، بتفعيل القرار الذي اتخذته وزارة الشباب والرياضة سنة 2017 بإطلاق اسمه على إحدى المؤسسات التابعة لها بناء على اقتراح ” حلقة الوفاء لذاكرة محمد الحيحي” ، وذلك إسوة بمبادرات تسمية شوارع وفضاءات وساحات عمومية ومؤسسات تعليمية وثقافية لشخصيات وفعاليات وطنية، في اطار حفظ ذاكرة رموز فكرية وحقوقية وسياسية واجتماعية.
وتجمع مختلف الفعاليات على التنويه بالخصال التي كان يتميز بها الراحل، وهو ما وثقه كتاب " محمد الحيحي .. ذاكرة حياة " الذي أعده الفاعل الحقوقي عبد الرزاق الحنوشي والكاتب الصحفي جمال المحافظ ويشتمل على ما يناهز 50 شهادة لشخصيات سياسية وحقوقية وجمعوية، جايلت مسار محمد الحيحي، أبرزت فيها بأنه يشكل قدوة ومثال للأجيال الصاعدة، مستحضرة جليل الأعمال التي قام بها خدمة للوطن، ودفاعا عن قضايا الطفولة والشباب وحقوق الإنسان وانتصاره الدائم لقيم التطوع ومبادئ المواطنة، بدون ضجيج وادعاء، وما قام به من جهود متواصلة في التقريب بين مختلف مكونات الحركة السياسية والتربوية والحقوقية.
ويؤكد الأديب والجامعي محمد برادة صاحب رواية " لعبة النسيان "، أن الراحل كان يـعتــبـر المواطنة مشاركـةً في كل ما يسـاعـد على خدمة المجتمع والوطن، ويُـجسّــد الانتماء بـكيفية إيـجابية ومـلــموسة، وهو ما جعل محمد الحيحي: يبقى حيا في ذاكرة الناس. .".