يُعد مشروع القانون رقم 59.24 المتعلق بتنظيم التعليم العالي والبحث العلمي خطوة إصلاحية مهمة في مسار تحديث الجامعة المغربية، وجعلها أكثر كفاءة وملاءمة مع التحولات الوطنية والدولية. فهو مشروع يطرح رؤية جديدة لمكانة الجامعة في النسيج الاقتصادي والاجتماعي، ويسعى إلى تجاوز تراكمات إدارية وبيداغوجية وهيكلية أعاقت أداء مؤسسات التعليم العالي لعقود.
لكن، وكأي مشروع إصلاحي واسع النطاق، يثير القانون بعض التحفظات والانتقادات، سواء من حيث منهجية إعداده، أو آليات تنزيله، أو مدى جاهزية البنية الجامعية لمواكبة متطلباته. وفي هذا السياق، من الضروري اعتماد نقد بنّاء ومعتدل، يعترف بالإيجابيات، دون تجاهل الملاحظات الجوهرية، ويقترح البدائل الممكنة لتقوية فرص النجاح.
مكاسب مشروع القانون: نحو حكامة جديدة واستقلالية مؤسسية
مشروع قانون 59.24 لا يخلو من عناصر تقدمية تستحق التنويه، لعل أبرزها:
- تعزيز استقلالية الجامعة في مجالات التدبير المالي والإداري، مع منحها إمكانية توقيع اتفاقيات وشراكات، وإنشاء شركات جامعية، وتنويع مصادر تمويلها.
- إحداث مجلس الأمناء كآلية لتوسيع قاعدة القرار الجامعي، بإشراك الفاعلين الاقتصاديين والجهويين، وهو تطور نوعي إذا ما تم تفعيله بفعالية وتجرد.
- فتح المجال أمام التعليم الرقمي وغير الربحي، في انسجام مع التوجهات العالمية، مما يتيح مرونة أكبر في الولوج إلى التكوين، خاصة للطلبة العاملين أو القاطنين بالمناطق النائية.
- تشجيع انفتاح الجامعة على الخارج عبر الترخيص لفروع جامعات أجنبية، ما من شأنه أن يرفع من تنافسية العرض الجامعي بالمغرب.
هذه المكاسب تعكس إرادة حقيقية لإعادة صياغة وظائف الجامعة المغربية، وجعلها أكثر التصاقًا بحاجيات الاقتصاد الوطني، وأكثر انفتاحًا على الدينامية المجتمعية.
تحفظات مشروعة وملاحظات بنّاءة
رغم ما سبق، فإن قراءة تقارير الرقابة والتقييم، وعلى رأسها تقارير المجلس الأعلى للحسابات، تُظهر أن الطريق نحو تنزيل فعلي لهذه الإصلاحات لا يزال مليئًا بالتحديات، من أبرزها:
- الاستقلالية الموعودة تبقى مشروطة، مادامت الجامعة لا تتوفر فعليًا على حرية تصرف في الميزانيات، ولا على صلاحية تدبير الموارد البشرية والعقارية.
- مجلس الأمناء قد يفقد نجاعته إذا لم تكن له تمثيلية فعالة وخبرة معرفية حقيقية، بعيدًا عن الترضيات الرمزية أو البيروقراطية.
- إدماج التعليم الرقمي يفتقر إلى استراتيجية وطنية واضحة، في ظل غياب بنية تحتية معلوماتية قوية وتجربة سابقة لم تُكلل بالنجاح (كما حدث خلال جائحة كوفيد-19).
- ضعف أدوات التقييم والمحاسبة داخل المنظومة الجامعية، سواء فيما يخص تتبع الأداء أو مراقبة الجودة أو ربط البحث العلمي بأولويات التنمية.
هذه التحديات لا تُلغي قيمة المشروع، لكنها تقتضي إرادة تنفيذية قوية ومقاربة تشاركية واسعة لضمان تنزيل فعّال ومؤثر.
منهجية الإعداد: بين الشرعية القانونية ومطلب التشاركية
أثارت النقابة الوطنية للتعليم العالي جدلًا واسعًا برفضها للمشروع على خلفية "إقصائها" من مسار الإعداد، واعتبرت أن الحكومة ضربت بعرض الحائط التزامات سابقة، وسعت إلى تمرير القانون بمنهجية أحادية، تهدد حسب قولها هوية الجامعة العمومية ومكتسبات الأسرة الجامعية.
وفي هذا الصدد، يجدر التمييز بين القانون والسياسة العمومية:
- من حيث الشرعية القانونية والدستورية، فإن مسار إعداد المشروع احترم القواعد الجاري بها العمل، كما تنص عليها مواد الدستور والقانون التنظيمي لتسيير أشغال الحكومة. فلا يوجد أي نص يُلزم الوزارة باستشارة النقابات في المرحلة التحضيرية السابقة للعرض على المجلس الحكومي.
- أما من حيث الشرعية السياسية والتدبيرية، فإن الحوار يبقى عنصرًا أساسيًا في إنجاح أي إصلاح، خصوصًا في قطاع حيوي كالتعليم العالي. وهنا، نرى أن المكان الأنسب لمشاركة النقابات هو المرحلة البرلمانية، حيث يمكنها التأثير من خلال جلسات الاستماع، وتقديم المذكرات والمقترحات، والتفاعل مع الفرق البرلمانية، خاصة وأنها ممثلة داخل مجلس المستشارين.
وبالتالي، فإن موقف وزارة التعليم العالي لا يمكن اعتباره إقصاءً، بل هو التزام بالقانون، مع بقاء ضرورة سياسية وأخلاقية لفتح قنوات التواصل خلال باقي مراحل المسار التشريعي.
توصيات من أجل إنجاح الإصلاح
لكي لا يبقى مشروع القانون مجرد وثيقة تشريعية من دون أثر، فإننا نوصي بما يلي:
- تعزيز التمكين المالي والإداري للجامعات، من خلال نقل حقيقي للسلط وتخفيف الوصاية المركزية.
- ضمان تفعيل مجلس الأمناء عبر اختيار كفاءات حقيقية، وتكوين أعضائه في قضايا التعليم العالي والبحث العلمي.
- وضع استراتيجية رقمية وطنية واضحة المعالم، تتضمن تمويلًا مخصصًا وتكوينًا للأطر والبنيات التحتية.
- تطوير نظام تقييم داخلي وخارجي مستقل لقياس أداء المؤسسات وربط المسؤولية بالمحاسبة فعليًا.
- فتح قنوات تشاركية خلال المرحلة البرلمانية، ودعوة النقابات لتقديم تصوراتها، بما يُعزز التملك الجماعي للإصلاح.
ختاما: لا إصلاح بدون ثقة... ولا تقدم بدون حوار
مشروع قانون 59.24 هو بلا شك إصلاحٌ طموح، ينسجم مع تحديات الزمن الجامعي الجديد، ويستند إلى مرجعيات قانونية سليمة. لكن فعاليته ستبقى رهينة بقدرة الجميع – حكومة، جامعات، فاعلين اجتماعيين – على بناء الثقة، وتغليب المنطق التشاركي، وتجاوز التوجس المتبادل.
إن دعم الإصلاح لا يعني غض الطرف عن الاختلالات، بل يعني الإسهام في تصحيح مساره، بالحوار الهادئ، والنقد الموضوعي، والرؤية الاستشرافية..
الدكتور محمد براو/ خبير دولي في الحكامة ومؤلف كتاب الحكامة الجيدة على ضوء التوجيهات الملكية