كنا قد أتممنا في النظرة (3) السابقة الحديث عن الأمور التي يجب القيام بها قبل إصدار قرارات الإعفاء في حق العلماء رؤساء وأعضاء المجالس العلمية، وأحب أن أضيف إليها هنا ضميمة أخرى أراها من الأهمية بمكان، لأجعلها مدخلا لهذه النظرة (4 /1) وهي، أن تتوقف الأمانة العامة للمجلس العلمي الأعلى والوزارة بعد ذلك عن النظر إلى ما يكتبه أو يرفعه إليهما رؤساء المجالس العلمية الجهوية أو رؤساء المجالس العلمية المحلية من معطيات ووقائع تخص أحد الرؤساء أو الأعضاء، باعتبارها من الحقائق التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، بل يتعين التحقيق فيها والبحث في مضمونها واعتبارها (ادعاءات) إلى أن يثبت العكس، مخافة أن يستغل البعض وأشدد هنا على البعض (والبعض فقط) هذا الامتياز لتصفية حسابات شخصية، أو يتخذه كوسيلة لإبعاد بعض الأشخاص الذين يرى أن وجودهم بالساحة وحضورهم بالميدان، قد يهدد مصالحه الشخصية، لأننا نخشى إن استمرت الأمور على ما هي عليه الآن من الاستناد التام إلى كتابات من أشرنا إليهم، لإصدار إعفاءات متسرعة، ولا تحترم النظام التشريعي لاسيما الظهير الشريف المتعلق بإعادة تنظيم المجالس العلمية، أن تجد الوزارة نفسها وقد أعفت كل العلماء، ثم لا تجد بعد ذلك من يقبل هذه المهام، إلا من تملأ به الفراغ فقط، كيفما كان هذا الملأ. وخصوصا إذا ما استمرت الوزارة الموقرة على نهجها بإصرارها على استعمال إعفاءاتها المفاجئة وغير المُعللة، كمطارق تنزل بها عليهم دون سابق إنذار أو إشعار.
وإن مما يثير كل العجب، في مسألة عدم تعليل قرارات الإعفاء الصادرة عن الوزارة، أنها في بيانها المشار إليه سابقا والمثير للجدل، قد قامت بالتنظير لقاعدة فرقت بمقتضاها بين قرارات الإعفاء من وظائف نظامية والإعفاءات من التكليفات غير النظامية، وهذا أيضا ينطوي على إشكال كبير جدا، لأن الوزارة الموقرة أظهرت بهذا أن لغة الخطاب والتواصل مع الرأي العام لديها، تعاني من أزمات متعددة، أشرنا إلى بعضها عندما علقنا على بيانها المشار إليه في مناسبة سابقة، ونضيف هنا أزمة أخرى، وهي أن الوزارة أقرت بتنظيرها المشار إليه ومن حيث لا تشعر، بهضم حقوق قسم المكلفين غير النظاميين، مثل الحق في معرفة أسباب الإعفاء وتعليلاته، والحق في حفظ الكرامة وصون المكانة، وحفظ الحق في الدفاع عن النفس، بمبرر أنهم يدخلون تحت قسم المكلفين غير النظاميين، فإذا كان المكلفون النظاميون لهم قانون يحميهم ونظام يصون حقوقهم ويكفلها، وإن لم تذكره الوزارة الموقرة في بيانها المشار إليه واكتفت بالإشارة إلى الحكم القضائي والمجلس التاديبي فقط، فإن المكلفين غير النظاميين الذين يدخل فيهم رؤساء وأعضاء المجالس العلمية، يجب أن يكونوا أولى بالحماية، ليس في مسالة الإعفاء فقط، وإنما في كل ما يرتبط بالمهام التي يقوم بها من هم منتمون لهذا القسم، وهو ما نرى أن الظهير الشريف المشار إليه أعلاه، كان يكفله ويضمنه، لكن بعد التدخلات التي أقدمت الأمانة العامة للمجلس العلمي الأعلى ووزارة الأوقاف على القيام بها، لزيادة أعباء جديدة على المجالس العلمية والمستجدات التي أخرجتاها في إطار تجديد الخطاب الديني وتوسيع قاعدته، لا نرى أن هذا الظهير الشريف بقي مصدرا ولا مرجعا لما تمت زيادته بتدخلات الأمانة العامة والوزارة، كما أن هذه الوزارة لا يبدو أنها فكرت في تطوير الإطار القانوني ليشمل ما تم إقراره، وهذا غريب، لأننا نعلم أنه لا يمكن إصلاح مجال معين بدون التفكير فيما يمكننا تسميته ب (كلفة الإصلاح) بما فيها الكلفة التنظيمية القانونية، والكلفة المادية والكلفة البشرية الخ... فهل فكرت الوزارة مثلا في إيجاد نظام لحماية العلماء، رؤساء وأعضاء المجالس العلمية، خصوصا بعد تطور عمل هذه المجالس نوعا وكيفا، بتدخلات الأمانة العامة للمجلس العلمي الأعلى والوزارة ومستجداتهما وإصلاحاتهما، وأصبح التنقل إلى البوادي والأماكن البعيدة وصعبة المسالك، في إطار خطة تسديد التبليغ وغيرها أمرا مألوفا ودائما ومستمرا، وهذه الخطة لوحدها تحتاج إلى وقفات مفصلة، لبيان ما فيها وما يرتبط بها من إشكالات، بدأ من الفكرة إلى التنزيل، لكن ليس هذا موضوعنا الآن، ولنعد لما كنا بصدده من الحديث عن أزمة التواصل والخطاب بالوزارة، وإقصائها بذلك لفئة المكلفين غير النظاميين وحرمانهم من المميزات القانونية التي تحمي حقوق المكلفين النظاميين وتصون مكانتهم، ونشدد هنا على أهمية الإطار القانوني في ترشيد عمل رؤساء وأعضاء المجالس العلمية وإحاطة ذلك بما يلزم من الأمان وصيانة الحقوق، وهنا أضرب للوزارة الموقرة مثلا، وهو أن يتعرض العالم أثناء قيامه بمهمة خارجية، لحادث ينتج عنه عجز مثلا، فهل ستقوم هذه الوزارة بتحمل مسؤولية ما حدث لهذا العالم، أم ستقول له نحن آسفون، فأنت لست موظفا نظاميا، وإنما أنت فقط مكلف بمهمة غير نظامية فتدبر أمرك، واذهب إلى حال سبيلك، فأين العدالة هنا وأين الإنصاف الذي يحظى به كل قائم بعمل نظامي، ولما يصل الأمر إلى العالم ينتهي به المطاف إلى أن يُجابه ببيان يُعلن فيه أنه لا حق لك فيما يتمتع به غيرك من حقوق.
وبطبيعة الحال فإن مثل هذا الخطاب الناتج عن أزمة تواصل بالوزارة الموقرة، سيكون له تبعات وعواقب وخيمة على الشعور العام لكل المكون البشري الذي يشتغل في الحقل الديني والمجالس العلمية على وجه الخصوص، وسيساهم في تكريس الشعور بعدم الأمان، بسبب غياب الحماية القانونية، وبسبب هذه الخطابات غير المحسوبة، وخصوصا عند إقدام الوزارة على تسريح من ترى أنه لم يقم بما يلزم من التكليفات التي عين من أجل القيام بها، وأنه لن يطمع في الحصول على الحماية خلال هذا التسريح، فقد لا يُستفسر ولا يُستمع إلى دفاعه ولا يُمكن من إبداء وجهة نظره، ولا معرفة أسباب تسريحه مثل صنف المكلفين النظاميين، وإن كان يعمل مثلهم أو أكثر منهم، فكثير من أعضاء المجالس العلمية يعملون بالليل والنهار، وفي أيام العطل، بما فيها عطلة نهاية الأسبوع والعطلة السنوية وغير ذلك، لكنهم فيما يتعلق بالحماية القانونية وفي المعاملة اللائقة، فهم أقل حظوة بها من غيرهم.
فمثل هذه الخطابات قد يكون لها تأثير على معنويات هؤلاء الرؤساء والأعضاء، ويجعل كل واحد منهم يفكر في المصير الذي ينتظره، وهو أن يخرج من الميدان يوما ما، بسبب أو بدون سببب بقرار يقضي بإعفائه من الرئاسة أو العضوية، كما أُعفي من قبله، دون أن يكون له الحق في الاطلاع على ما تقرر بشأنه. فأي رغبة ستبقى لهؤلاء الرؤساء والأعضاء في العمل بإخلاص وهم يرون بأعينهم ويسمعون بآذانهم من يُعفيهم ويقول لهم إنكم غير نظاميين. فأي خطاب هذا؟ ألم تجد الوزارة غير هذا الخطاب لِتُنظر به لقاعدة التفريق بين النظامي وغير النظامي؟ وهل كانت هذه الوزارة محتاجة لهذا التنظير أصلا؟
فليس معقولا ولا سليما أن تفعل الوزارة ما تشاء إذا ما كان هناك فراغ قانوني في تنظيم عمل فئة المكلفين غير النظاميين، بل عليها أن تتعامل معهم وفق ما تتخذه من قرارات ضامنه لحقوقهم، ووفق ما تقتضيه القواعد العامة التي تخضع لها الإدارة عامة في المملكة المغربية الشريفة، ومنها مبدأ تعليل القرارات الإدارية، وتطبيق قواعد العدالة والإنصاف.
وتتعامل معهم كذلك وفق ما تقتضيه قواعد حقوق الإنسان، ومنها مبدأ عدم المفاجأة بالإجراءات والقرارات والأحكام قبل إعلانها لمن تعينت في مواجهته، وأما أن تقرر الوزارة أمر الإعفاء في حق رئيس أو عضو دون تعليل لقرار إعفائه أو إخباره مسبقا والاستماع إليه، اعتمادا على تنظيرها السابق بيانه، فهي بذلك تصادر حقوقه القانونية والإنسانية بدون مبرر معقول.
ثم لماذا لا تعمل الوزارة وفق ما يقتضيه الخطاب الإسلامي المليء بالدلالات والإشارات المقررة لمبدأ العدالة والإنصاف؟ ففي القرآن الكريم مثلا توجيه عظيم لما يجب أن يفعله الحاكم قبل إصداره القرار أو الحكم، تضمنته قصة سيدنا داود عليه السلام في ( سورة ص) حينما اختصم إليه الخصمان وحكم لأحدهما قبل الاستماع إلى الآخر، لما في ذلك من الشطط الذي يبطل الحكم ويعدم أثره. أم أن الوزارة هنا تعمل بمقولة (كلام الجامع يبقى في الجامع؟) ولهذا الموضوع تفريعات أخرى على المستوى الجهوي سنتطرق إليها قريبا.
د/ عبد اللطيف البغيل، عضو مجلس علمي سابق
