من يحمي الآخر: هل السلطة هي التي تصون الأسرار وتحميها؟ أم أن الأسرار هي التي تجعل السلطة ما هي عليه، وهي التي تعطيها قوتها، وتصون هيبتها؟ هل السلطة فاعل أم مفعول به في لعبة التستر؟
لكن، مهما كان الأمر، فربما لا يمكننا أن نتصور سلطة من غير أسرار. السلطة ترتبط في أذهاننا بالصمت والكتمان وعدم الشفافية، وتحاشي كل ما يمكنه أن يُظهر المكنونات، ويفضح "الشؤون"، ويكشف عن "العجلات". غياب هذه المكونات من شأنه أن يجعل السلطة من غير سُمك، ويعرضها شفافة مسطحة ضعيفة. كتب بول ريكور: "الشفافية التامة لا تؤدي إلى الحقيقة، بل إلى التعرية، والعري ليس معرفة". بمعنى أننا حين نطالب بكشف كل شيء، قد نسقط الحجب، لكننا لا ننتج الفهم، بل قد نحول السياسة إلى فرجة، ونضعف القدرة على الفعل التفاوضي، أو نشوش على منطق القرار.
دائرة الأسرار
ربما لأجل ذلك نصح ماكيافيلي الأمير "ألا يكشف عن مقاصده"، وأن يضمر نيته، ولا يتشارك سرها إلا مع أقرب المقربين إليه، إلا مع "رجالات" السلطة. فمن يؤتمن على السر، يصبح جزءا من "الدائرة القريبة"، بل يتخذ قيمته ويُمنَح السلطة بناء على "نصيبه من الخفاء". هنا تتأسس تراتبية داخل السلطة نفسها، لا على الكفاءة فقط، بل على القرب من النواة السرية: فالقرب من دواليب السلطة يكاد يقاس بتقاسم الأسرار. الحظ من الأسرار هو الذي يحدد الرتبة في سلم السلطة. من هذه الوجهة تبدو الأسرار هي ما يحدد السلطة ويعين دائرتها ومناطق نفوذها. كأن السر يدار كما تدار الثروة: يوزع بشكل محسوب، ويستثمر في الولاء، وتحتكره النخبة. وبالتالي، فهو ليس مجرد معلومة خفية، بل هو "عملة رمزية"، ورأسمال سياسي يُتداول داخل دواليب السلطة.
بينما يرى البعض أن السلطة هي التي "تدبر" السر: هي التي تقرر ما يجب إخفاؤه ومتى، وهي التي تتحكم في تدفق المعلومات، فتنتج حولها هالة الغموض عن قصد (الاجتماعات المغلقة، الوثائق المصنفة، "الأسرار الكبرى" للدولة أو الكنيسة...)، يرى آخرون، على العكس من ذلك، أنها هي التي تتأسس على السر، وليس العكس. وجود السر هو الذي يجعل الطاعة ممكنة: فنحن نرضخ لأن هناك شيئا لا نعرفه. فليست المعرفة وحدها ما يؤسس السلطة، بل "المنع من المعرفة". السر هو الذي "يولد الهيبة"، و"يصون المسافة الرمزية" بين من "يعلم" ومن "يطالب بالفهم". فكون لا أحد يعلم بالضبط كيف تتخذ القرارات، ومن يستشار في شأنها، وما الذي يقال في الغرف المغلقة… هذا هو ما "يخلق المسافات"، ويغذي الإيمان بـ"الهيبة".
ماكيافيلي
وعلى رغم ذلك، فإذا كانت السلطة في حاجة إلى أسرار كي تُمارَس، فإنها، بمرور الوقت، قد تتحول إلى "أسيرة لهذا السر"، لأنها تخشى أن يُكشف المستور، فتنهار الهيبة، أو يفتضح الضعف، ويتعرى الفراغ. كأن السلطة، كلما ازداد احتياجها إلى السر، زادت هشاشتها أمام انكشافه. على هذا النحو يمكننا أن نقول إن السر ليس مجرد محتوى تخفيه السلطة، بل هو شكل وجودها نفسه. فهي لا تحرسه فحسب، بل تتغذى منه، وتتكون عبره، وتتهدد بانكشافه.
الساحة العمومية
ومن هذه الوجهة تبدو "الساحة العمومية" أبعد ما يكون عن تداول السياسي، ما دامت السياسة تظهر كأنها أساسا فن التستر والتخفي. لعل ذلك ما دفع المد الديمقراطي إلى السعي وراء فضح أسرار السلطات وإماطة لثامها و"إخراجها من عجلاتها"، لجعل الشأن السياسي "شأنا عموميا". عزمت الأنظمة الديمقراطية، منذ بداية ظهورها، على أن تحول "مصلحة الدولة" إلى "حق في المعلومة"، والغرف المغلقة إلى "جلسات برلمانية علنية"، والنخبة المحتكرة للمعرفة إلى "رأي عام مطلع".
إلا أننا، إن تمعنا في تاريخ أعرق الدول والأحزاب ديمقراطية، تبينا الأهمية القصوى التي لا يزال كتمان الأسرار يتخذها بحصرها في مؤسسات وقنوات ضيقة. فقد ظل السر شرطا للعمل السياسي حتى عند أعرق الديمقراطيات: فأحزابها لا تزال تحتفظ بلجان ضيقة لاتخاذ القرارات، وحكوماتها تخفي "التفاهمات" والصفقات، كما أن الدول في تلك الأنظمة لا تزال تراكم ملفات سرية لا يفرج عنها إلا بعد عقود. الديمقراطية تمارس السر، وإن كانت تبرره بمسميات جديدة: "الخصوصية المؤسساتية"، "المصلحة العليا"، "الخبرة التقنية"، "التفاوض السري"، إلخ.
الديمقراطية إذ تنتقد احتكار السر، تعيد إنتاجه في صيغ أكثر نعومة وشرعية. فهي ليست نظاما "بلا أسرار"، بل هي نظام يفاوض باستمرار موقع السر، ويعيد ترسيم حدوده بين العام والخاص، بين ما يقال وما يخفى، بين "التمثيل" و"الإفشاء".
ولعل ما أعقب تسريبات "ويكيليكس"، وفضحها لكثير من الأسرار، من ردود أفعال محلية ودولية، كاف ليؤكد الروابط المتينة التي لا تزال تجعل من التكتم على الأسرار دعامة أساسية لكل سلطة، بل ركيزة لكل مؤسسة سياسية، مهما كان النظام الذي يسود عندها.
صحيح أن السلطة لم تعد تسيطر على السر كما في السابق، إلا أنها باتت تعيش في ظل خطر دائم هو انكشاف ما تخفيه. لقد تحول ميزان القوى من احتكار المعلومة إلى تعدد سبل تسريبها.
التحكم في المعلومات
في السابق، كانت السلطة تتحكم في وسائل الإعلام، أو على الأقل في مفاتيح الوصول إلى المعلومة، أما اليوم، فأمام شبكات التواصل الاجتماعي، والهواتف المحمولة التي توثق كل شيء، ومنصات تسريب الوثائق، أصبح من شبه المستحيل السيطرة على تدفق المعلومات. لذا، فإن "السر" لم يعد ثابتا محفوظا في مكان، بل غدا عرضة دائمة لينكشف و"يفتضح أمره".
لذلك فإن السلطة تعلمت كيف تعيد تدوير الفضيحة، وكيف تمسرحها، أو تفرغها من قوتها، أو توظفها لصالحها. لا يعني ذلك التخلي النهائي عن الأسرار، بل انتقالها من السرية الصامتة إلى السر المكشوف جزئيا، السر المؤطر، المتنازع عليه. فالسر لم يعد جوهرا ثابتا تخفيه السلطة، بل أصبح موضوعا للفضح، مادة للاستهلاك الجماهيري، ورهانا في لعبة الهيمنة الجديدة.
لم تعد السلطة المعاصرة تمارَس فقط من خلال التستر والحجب، بل أيضا بإدارة ما يُكشَف. أصبحت تنخرط أحيانا في ديناميات معقدة من إدارة التسريبات، حيث يصبح توقيت الكشف، وطريقة عرض الوثائق، والتعرض لما يبرز من وقائع، أدوات للتأثير في التلقي العام، وتوجيه الانتباه السياسي. السلطة لم تُهزم أمام الإعلام، بل تبينت أن عليها أن تناور داخل فضائه.
في زمن الوسائط الجديدة، لم تنته لعبة التستر، بل تغير شكلها. فهي لم تعد لعبة بين من "يعرف" ومن "يُمنَع"، بل أصبحت صراعا على ما يُكشَف وكيف، ومتى، ولمن، وبأي تأويل.
لم يعد السر يصان بالكتمان، بل يُستبَق بالكفاءة في إدارة الفضيحة. نعم، في البداية كانت الفضيحة ترعب السلطة، لأنها تهدد صورتها الأخلاقية، وتطعن في صدقيتها السياسية، وشرعيتها الشعبية. لكن ما حصل لاحقا هو أن السلطة، لا سيما في المجتمعات الليبيرالية، طورت مناعة ضد "الفضائح". بل وأكثر من ذلك: أصبحت تعامل الفضيحة كما يعامل رجل الأعمال الأزمات حيث يعتبرها فرصة لإعادة التموضع. تلعب "الفضيحة" في المجال السياسي ما تلعبه "الأزمة" في المجال الاقتصادي. لم يعد هدف السلطة صون الأسرار، وإنما تدبير الفضائح Gérer les scandales.
في عالم الإعلام المتسارع، لم يعد الهدف منع الفضيحة، بل تدبيرها: السلطة المعاصرة لم تعد سلطة الصمت، بل سلطة "التحكم في الضجيج". لم تعد سلطة "ما لا يقال"، بل سلطة "ترتيب ما يقال"، في أي ظرف مناسب، وبأي نبرة، وبأي تبرير.
تحولٌ بنيوي إذن في منطق السلطة: لقد انتقلت من منع الوصول إلى المعلومة (صون السر)، إلى إغراق الفضاء بالمعلومات (الضجيج)، لكن، من غير أن يكون القصد كشف الحقيقة، بل توهيمها، تشتيتها، وتحييد أثرها. لم تعد قوة السلطة تمثل في إخفاء ما لا يقال، بل في إغراق ما يجب أن يقال في طوفان من اللغو والضجيج والتأويلات المتضاربة.
عن مجلة : المجلة
