Sunday 10 August 2025
كتاب الرأي

الصادق العثماني: حين يتحول الخوف من الله إلى أداة في يد جماعات التطرف والتكفير

 
 
الصادق العثماني: حين يتحول الخوف من الله إلى أداة في يد جماعات التطرف والتكفير الصادق العثماني
منذ أن كنت طالبًا في جامعة القرويين، كلية الشريعة بفاس، إلى يومنا هذا، عرفت عن قرب أنماطًا متعددة من المتدينين، مسلمين وغير مسلمين من يهود ونصارى. وخلال هذه المسيرة، أيقنت أن التدين – كما يقال – سيف ذو حدين؛ فقد يكون طريقًا للهداية والنور، وقد ينحرف بصاحبه إلى مهاوي الغلو والتكفير والتطرف، بل وربما الإرهاب. ومن أخطر هذه الانحرافات ما يرتبط بما يعرف بـ"الوسواس القهري الديني"، وهو اضطراب نفسي خطير قد يحوّل التدين من مصدر للطمأنينة إلى عبء يستهلك صاحبه حتى العجز.
في أحد مراكز العلاج النفسي بمدينة ساوباولو بالبرازيل حدّثني صديق طبيب مسلم مختص عن شاب في الثلاثين من عمره، يقضي ساعات طويلة في الوضوء ويعيد الصلاة عشرات المرات خوفًا من بطلانها. يقول الطبيب: "عندما جاء إلينا، كان عاجزًا عن العمل أو التواصل مع أسرته، مقتنعًا أن أي تقصير، ولو يسير، سيقوده إلى جهنم. هذا ليس تدينًا سليمًا، بل حالة مرضية اسمها الوسواس القهري الديني".
الأطباء يعرّفون هذا الاضطراب بأنه أفكار متسلطة مرتبطة بالدين، تفرض على المصاب سلوكيات متكررة مرهقة. وفي كثير من الحالات، يقع هؤلاء المرضى فريسة سهلة لجماعات متطرفة تستغل خوفهم وقلقهم، فتغذي مرضهم بمزيد من التشدد، وتدفعهم إلى تبني فكر تكفيري أو ممارسات غريبة وعدوانية.
لقد التقيت خلال مسيرتي الدعوية والفكرية بأشخاص وجماعات يصرّون على فرض فهمهم الضيق للدين على الآخرين، مدّعين أنهم وحدهم يعرفون الحق. وبعض هؤلاء – في الحقيقة – كانوا يعانون من أعراض الوسواس القهري، لكن بدل أن يتجهوا نحو العلاج الطبي، انجرفوا إلى أحضان جماعات متشددة جعلتهم أكثر انغلاقًا وتطرفًا.
الخطورة – كما يوضح الأطباء – أن المريض لا يميّز بين الالتزام الشرعي المشروع وبين السلوك القهري غير المنطقي، فيتجاوز الحدود الدينية والإنسانية، وربما يتحول إلى أداة طيّعة في يد الفكر الإرهابي. صحيح أن التطرف ليس دائمًا مرضًا نفسيًا، لكنه في حالات كثيرة يستغل الاضطرابات غير المعالَجة.
العلاج هنا لا يكون بالوعظ وحده ولا بالتخويف، بل بالتشخيص العلمي والتدخل العلاجي المناسب: العلاج السلوكي المعرفي، والأدوية عند الحاجة، إلى جانب خطاب ديني متزن يعيد المريض إلى حالة إيمانية صحية، خالية من الغلو والوساوس.
إن إهمال علاج الوسواس القهري الديني لا يعني ترك مريض يواجه معاناته وحيدًا فحسب، بل هو فتحٌ لباب خطير أمام الفكر المتطرف ليستغل ضعف النفوس ويحوّلها إلى مشاريع للعنف والكراهية. الخطر الحقيقي ليس في خوف المريض من الله، بل في من يستغل هذا الخوف للسيطرة على عقله وتوجيهه نحو أجندات متطرفة تدمّر العقول والأوطان.
ما لم ندرك أن مواجهة التطرف تبدأ أيضًا من عيادات الطب النفسي، فسنظل نحارب النتائج ونغفل عن الأسباب. الدين الصحيح لا يحتاج إلى وسواس، والإيمان السليم لا يقوم على قهر النفس حتى تنهار. وحماية المجتمع تبدأ من حماية العقول قبل أن تُختطف، وهو ما لم تستوعبه بعد برامج الوعظ والإرشاد والمناهج الدينية في كثير من دولنا الإسلامية والعربية.


الصادق العثماني- أمين عام رابطة علماء المسلمين بأمريكا اللاتينية