لا جديد في حديث بشار الأسد الأخير مع مجلة "باري ماتش" الفرنسية، باستثناء عبارة واحدة مُلفتة، وهي أن الحرب في سوريا ستكون طويلة وصعبة، وأنه لا يمكن التكهن بموعد انتهاء الحرب مع متشددي الدولة الإسلامية.
في شهر أبريل الماضي، توقع بشار الأسد أن تنتهي العمليات العسكرية الكبرى في سوريا، لصالحه، بحلول نهاية العام الجاري. أوحى حديثه حينها بأن لديه اقتناعا بقدرته على حسم المشهد الميداني السوري لصالحه في وقت قريب. علّق الأمريكيون يومها بأن ما يحدث في سوريا هي "حرب استنزاف"، مستغربين وصف الكفّة بأنها تميل لصالح الأسد.
أما اليوم، فلهجة الأسد تغيرت. ورغم تعهده بالانتصار على مناوئيه في نهاية المطاف، إلا أن تصريحاته الأخيرة للمجلة الفرنسية المذكورة، لا تُوحي أنه مقتنع بذلك حقاً. الأمريكيون أيضاً يعتقدون أنها ستكون حرباً طويلة، ومعقدة.
هذه ليست المرة الأولى التي تخيب فيها تقديرات الأسد، لكن في هذه المرة أوحت تصريحاته أنه لا يملك رؤيةً للمستقبل، باستثناء استمرار الصراع، وإصراره على التمسك بالكرسي، مهما كان الثمن، متعهداً أنه سيكون آخر من يقفز من السفينة "الغارقة" - "سوريا".
يقرّ الأسد اليوم، دون قصد، أنه فشل في تقدير مستقبل الصراع وآفاقه. إقراره هذا يظهر في ما بين سطور تصريحاته. وهي رسالة لأنصاره بأن عليهم التزام الصبر، رداً على مؤشرات تذمرهم من الخسائر المستمرة في صفوف أبنائهم.
لم يقدم الأسد لأنصاره أية قراءة لمستقبل الصراع وأفقه. فقط، أعطاهم أمراً قسرياً، غير مباشر، بعدم التذمر، فالقادم لن يقل صعوبة، وربما زمناً، عما فات.
صرامة حديث الأسد عن الحرب الطويلة والصعبة تعبّر عن فحوى طريقة تفكيره، وخلاصتها أنه لا يقدّر الخطر إلا حينما يلامس كرسيه بصورة مباشرة. أما المؤشرات الأخرى الأقل لفتاً للاهتمام، لا تجذب انتباه الأسد. فهو لا يبدو أنه يعي خطورة تراكم الاستنزاف الذي تعاني منه موارد نظامه البشرية والمالية والاقتصادية.
لا يلاحظ الأسد، حسب ما يُفهم من تصريحاته، أن آثار الاستنزاف في قدرة النظام السوري تتبدى اليوم في عجز مؤسسات الدولة عن تلبية المتطلبات الأولية لحياة السوريين في مناطق سيطرته.
إذ بدأ يظهر بوضوح التهالك في منظومة تموين الطاقة في البلاد، وما يعنيه ذلك من تهالك للاقتصاد ولظروف الحياة الطبيعية.
الكهرباء والماء والغاز والمازوت...وغيرها، باتت كلها أزمات متوالية، ما تكاد أزمة تنتهي حتى تليها أخرى.
جاهد نظام الأسد في أن يؤمن للمناطق الخاضعة لسيطرته الحدود الدنيا لمتطلبات الحياة الطبيعية. كان يريد أن يقول للجميع أنه الخيار الأفضل لحياة آدمية وفق مفهومي الأمن وأولويات الغذاء والطاقة. لكن المشهد يبدو أنه آخذ في التغيير.
يواصل تنظيم "داعش" مهاجمة حقل الشاعر والحقول المحيطة به، وسط حمص، من حين لآخر. ويتكبد النظام بصورة شبه أسبوعية خسائر بشرية ضخمة لإحكام سيطرته على تلك المنطقة الحيوية بالنسبة له. فالغاز الموجود فيها هو المورد الأخير المُتبقي لدى نظام الأسد لإبقاء مولدات الكهرباء تعمل.
لا ينفي ما سبق أن نظام الأسد أتاح المجال لتأسيس اقتصاد حرب، وطبقات وشرائح مستفيدة منه، حيث بات تأقلم السوريين مع الواقع الراهن، ربما لسنوات أخرى، أمراً لا مفرّ منه. لكن ذلك لا ينفي أيضاً بأن تراكم نزيف "الدولة السورية"، كمؤسسات، وكموارد، وكاحتياطي مالي، لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية، وأن هناك نقطة انهيار مُرتقبة.
في الوقت الذي كان فيه الأسد يتحدث للمجلة الفرنسية، كان مقاتلو "داعش" يدكون أسوار مطار دير الزور العسكري، أحد آخر جيوب النظام المُتبقية في المنطقة الشرقية.
الاشتباكات المحدودة بين قوات النظام وبين مقاتلي داعش في الأشهر القليلة الماضية أوحت بأن التنظيم قادر على تحقيق اختراقات خطيرة تعني أنه لو ركز على جبهة الأسد، ربما تمكن من تحقيق اختراقات أخطر في الأفق القريب. والضغط الدولي والإقليمي على التنظيم في جبهة العراق، وشمال سوريا (عين العرب - كوباني)، قد يضطر التنظيم لاعتماد جبهة الأسد باعتبارها أسهل الجبهات المُتاحة.. خاصة نظراً للحرج الذي قد يقع فيه التحالف الدولي إزاء استهداف التنظيم في معركة له مع نظام الأسد، بصورة يبدو معها التحالف، علناً، وكأنه يقاتل في صفوف الأسد. مما يجعل من المستبعد أن يتدخل التحالف الدولي، مباشرة، في الصراع بين التنظيم والنظام.
هل يدرك الأسد هذه المرة أن الوقت لا يلعب لصالحه؟...لا يبدو ذلك، فهو ابن مدرسة لطالما اعتمدت إستراتيجية حافة الهاوية وراهنت على الوقت علّه يرتق ما انفتق من قدرة النظام.
لكن "داعش" أيضاً، لا يلعب الوقت لصالحه. فتوقف تمدد التنظيم يهدد زخمه الذي اكتسبه في الأشهر السابقة، والذي أمده بآلاف المقاتلين المتحمسين، وبالكثير من الموارد. توقف التنظيم عن التمدد اليوم يهدد استقرار قبضته حتى في المناطق التي يسيطر عليها. فالمراوحة في المكان ليست خاصية إيجابية للتنظيمات المتشددة، بل على العكس. مما يعني أنه في الأفق القريب لن يجد "داعش" أفضل من جبهة الأسد للتمدد فيها.
هل يعي الأسد ما سبق؟...لا يبدو ذلك أيضاً، فرد فعل النظام، الملحوظ، حيال مساعي موسكو لوضع لبناتٍ مقبولة لحل سياسي في البلاد، يؤكد أنه لا يزال يراهن على الوقت.
رهان الوقت، بين نظام يراهن على طول الأمد، وبين تنظيم يراهن على سرعة الإنجاز، سيكون المعادلة التي قد تقصم ظهر نظام الأسد.
ما سبق يعني أن تقديرات الأسد بأن "الحرب طويلة"، قد تخيب مجدداً، فليس لدى "داعش" الوقت لذلك. أما أنها ستكون "صعبة"، فهو دون شك محقٌ تماماً في ذلك.
(عن جريدة "المدن" الإلكترونية اللبنانية)