"الإنسان هو الكائن الذي يعبر الحدود.".. ميشال أجير
"لكي أعرف من أنا، لا بد أن أعي من لسْتُه."........ جمال الغيطاني
مدخل نظري: الغيرية كهويّة في التكوّن
منذ البدايات الأولى للفكر الإنساني، ظلت العلاقة مع "الآخر" تؤسس لوعي الذات، عبر التمايز أو الإعجاب أو الصدام أو التقليد. الغيرية ليست فقط ما يختلف عنا، بل هي البنية الخفية التي تُظهرنا وتُعرّينا في آن. وقد أشار علماء الأنثروبولوجيا، من كلود ليفي-شتراوس إلى طلال أسد، إلى أن الذات لا تُبنى إلا عبر مرآة الآخر. كما اعتبر بول ريكور أن فهم الذات يمر بالضرورة عبر "طريق طويلة تمر عبر الآخر".
في هذا الإطار، تتخذ الحكايات الشعبية والرمزية بُعدًا خاصًا. فهي، وإن بدت بسيطة أو موجهة للأطفال، تعكس تصورات عميقة عن النفس، والمجتمع، والتحوّل، والانتماء. وضمن هذا النسق، نقترح قراءة معمقة لحكاية حورية البحر الصغيرة، بوصفها نموذجًا سرديًا يستبطن توتّر الغيرية، لننفتح منه على حكايات أخرى ونقارنها بإسقاطات معاصرة، خاصة فيما يخص تجربة الشباب الإفريقي في علاقته بالضفة الأخرى.
غَوَاية العالم الآخر: من الأعماق إلى اليابسة
في قصة حورية البحر الصغيرة لهانس كريستيان أندرسن، لا يقتصر السرد على قصة حب بين كائن بحري وأمير بشري، بل يتجاوز ذلك إلى مجاز رمزي حول الانتماء والهوية والغيرية. الحورية التي تحلم بالعالم البشري، لا تفعل ذلك بدافع الغرام فقط، بل بدافع الشغف بمعرفة "ما وراء" عالمها. إنها تراقب، تتخيّل، ثم تُقرر أن تتخلّى عن صوتها، عن موروثها، عن انتمائها البيولوجي والمائي... كل ذلك لتكون "قريبة" من الآخر، لتنال القبول.
لكن هذه المغامرة لا تنتهي بالنجاح، بل بالخسارة. تفقد صوتها، ويُخذل حبها، وتبقى معلّقة، لا هي من البحر ولا من البر. في نهاية القصة، تتحوّل إلى "ابنة الهواء"، كيان شفاف لا يُمس ولا يُعترف به، لكنه حاضر. هذه النهاية ليست فقط حزينة، بل كاشفة عن الثمن الثقيل الذي تدفعه الذات حين تحاول أن تصبح ما ليس منها، أو حين يُفرض عليها "الاندماج" على حساب التفرّد.
حكايات مماثلة: اختلاف المصائر والسياقات
- البطة القبيحة
في هذه الحكاية، أيضًا من أندرسن، نجد سيرة عكسية تقريبًا. فـ"البطة" تُرفض من جماعتها، تسخر منها الطيور الأخرى، تهيم في الطبيعة بحثًا عن الانتماء، لكنها لا تحاول أن "تتغيّر"، بل تستمر حتى تكتشف حقيقتها: أنها بجعة. هنا، الغيرية ليست مسعى للتشبه بالآخر، بل بحث عن الأصل المقموع، عن جوهر الذات في مرآة العزلة.
- Peau d’âne
في هذه الحكاية الفرنسية، ترفض البطلة زواجًا محرمًا، وتلجأ إلى التخفي تحت جلد حيوان، تصبح خادمة صامتة، قبل أن تنكشف هويتها لاحقًا في لحظة احتفال. الصمت والتخفي هنا وسيلتان للمقاومة، وليس للذوبان.
- المرأة الهيكل العظمي (من فلكلور الإسكيمو)
امرأة ماتت غرقًا وعادت على هيئة هيكل عظمي، يتم اصطيادها عرضًا من قِبل صياد. لا يقتلها، بل يتقبّلها، يدفئها، ويعيد لها الروح عبر الحنان. هنا، الآخر لا يذوّب المختلف، بل يحتضنه كما هو.
الهجرة الحديثة: سيرة الحورية المعاصرة
الشباب الإفريقي، اليوم، وهو يركب البحر أو يهاجر بطرق غير نظامية نحو "الضفة الأخرى"، يعيش سردية الحورية الصغيرة بطريقة وجودية. يراوده حلم أوروبا، حيث فرص العمل، والتقدير، والحياة الكريمة. لكنه ليصل، يضطر غالبًا للتخلي عن لغته، عن مظهره، عن دينه أحيانًا، وعن عاداته. يُطلب منه أن "يندمج"، أي أن يتحول. لكنه، كما الحورية، كثيرًا ما يجد نفسه مرفوضًا، مهمّشًا، غير مفهوم. اللغة الجديدة لا تعني بالضرورة امتلاك الصوت، بل قد تكون عبئًا من الصمت المقنّع.
الغيرية ليست ذوبانًا: الهوية بوصفها عبورًا
تُظهر لنا هذه الحكايات أن الغيرية لا تعني بالضرورة التشبّه بالآخر، بل قد تكون مساراً للانكشاف الذاتي. الحكايات التي تنتهي بالتحوّل، لا تنكر الأصل، بل تعيد صياغته. كما كتبت سلمى الخضراء الجيوسي: "الهوية ليست صخرة، بل نهر يتشكّل باستمرار".
وفي هذا السياق، تشير الباحثة كاميي غودار Camille Goudard إلى أن "الحكايات الخرافية تُعلم الأطفال كيف يكونون غرباء دون أن يشعروا بالخطر"، لأنها تتيح لهم تمثّل الاختلاف بوصفه تجربة كونية.
بين الحكاية والواقع: نحو سردية ثالثة
من المهم ألّا نُسقط رؤى أخلاقية جاهزة على هذه الحكايات. الحورية لم تكن "ساذجة"، بل كانت تجريبية. سعت إلى عبور الحدود. لكنها فعلت ذلك في عالم لا يعترف بالمختلف إلا إذا تماهى معه. لهذا، يمكن أن نرى في نهايتها -كابنة للهواء -إمكانية لهوية ثالثة، معلّقة، لكنها خفيفة، حرة، لا تنتمي لماضٍ ثقيل ولا لمستقبل مغلق.
هذا الشكل من الهويات المعلّقة نجده في كتابات المهجر، في أدب الشتات، كما في روايات طيّب صالح أو إدوار الغيطاني، أو حتى في حكايات لاجئين شباب يكتبون اليوم بالفرنسية أو الإنجليزية عن تجاربهم في الضياع والهجنة والولادة من جديد.
خاتمة موسّعة: من الحكاية إلى السياسة
ليست هذه الحكايات مجرد ترف لغوي. إنها تعبّر عن تصورات اجتماعية عميقة حول من يُقبَل ومن يُرفض، من يحقّ له أن يكون "ذاتًا"، ومن يُنظر إليه بوصفه غريبًا دائمًا. ومن هنا، فإن مقارنتها بتجارب حقيقية ليست إسقاطًا تعسفيًا، بل محاولة لفهم البنية الرمزية التي تُعيد إنتاج الاختلال في العالم.
كما كتب فالتر بنيامين: "الحكايات تحفظ الحكمة المكثفة للشعوب». وربما، حين نقرأ حورية البحر أو البطة القبيحة أو المرأة الهيكل العظمي، فإننا لا نقرأ الماضي، بل مآزق الحاضر، وآفاق الممكن.
وهكذا، تظل الحكاية مفتوحة، كما تظل الهوية لا نقطة وصول، بل سطرًا دائمًا في نص لا يكتمل.
.png)
