Monday 21 July 2025
خارج الحدود

الجولاني ومأزق الأمن الإقليمي: حين تتحول إدلب إلى نواة لطالبانية مشرقية

الجولاني ومأزق الأمن الإقليمي: حين تتحول إدلب إلى نواة لطالبانية مشرقية محمد الجولاني
وغني عن البيان، أن هذا المشهد ازداد توترًا بعد التصريحات الأخيرة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي عبّر لأول مرة بوضوح عن أن الأكراد ليسوا أعداء، بل “إخواننا”، وهي رسالة مشفّرة تُقرأ بدقة في دمشق كما في إدلب، وتُثير مخاوف لدى الإدارة السورية من احتمال دخول أنقرة على خط المصالحة الكردية، بما يهدد التوازنات التي يستند إليها الجولاني وسائر الفاعلين في المنطقة. إن هذا التصريح لم يأت من فراغ، بل من مقاربة استراتيجية يراهن فيها أردوغان على إعادة تموضع تركيا في ما بعد الأزمة، وهو ما يدفع الجولاني إلى تكثيف عدائه للأكراد باعتبارهم العقدة المركزية في أي مشروع لإعادة بناء الدولة.
 
لكن السؤال الذي يفرض نفسه في هذا الصدد، لا يتعلق فقط بإمكانية محاسبة الجولاني أو تطويق خطره، بل في ماهية الخطأ الذي جعل المنظومة الدولية، ومعها بعض العواصم الإقليمية، تقتنع بإمكانية أن يُنتج المشروع التكفيري نموذجًا للحكم المدني. إنها الخطيئة ذاتها التي وقعت فيها أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية حين اختارت أن تصمت على صعود النازية بدعوى السيادة والاستقرار الداخلي، إلى أن تحوّل المشروع إلى آلة جهنمية قضت على ملايين الأبرياء. فهل تنتظر المنطقة حتى تتحول إدلب إلى “أوشفيتز جديدة”، باسم الدين هذه المرة، قبل أن يتحرك المجتمع الدولي؟ أم أن الوقت لا يزال متاحًا لوقف هذا الانحدار، واستعادة مسار العدالة الانتقالية الذي وُلد ميتًا في سوريا بسبب تحالف العجز الدولي مع وقاحة الفاعلين المحليين؟

في الواقع، إن خطورة هذا المنعطف لا تكمن فقط في طبيعته الدموية أو في سلوكياته القمعية، بل في قابلية تطبيعه سياسيًا من طرف قوى إقليمية ترى في تبني الجولاني ورقة تكتيكية لتحجيم النفوذ الإيراني والتركي في آن واحد، وهي نظرة قاصرة تقارب المعادلة السورية بمنطق الأوزان الجيوسياسية لا بمنطق الحقوق والكرامة والمشروعية، فتحويل سوريا إلى حقل تجارب استراتيجي تُجرى فيه مقايضات بين المتشددين وأمراء الحرب ليس إلا تمهيدًا لتفكيك الدولة نهائيًا، واستبدالها بفسيفساء مذهبية مسلّحة، يتم ضبط إيقاعها من العواصم الإقليمية لا من دمشق ولا من إدلب.
 
وهنا يُطرح السؤال الجوهري: هل الجولاني غير قادر على ضبط الفوضى التي تنتجها جماعته؟ أم أن هذه الفوضى هي جوهر مشروعه السياسي، وليست استثناءً منه؟ إن الإجابة ليست تقنية ولا عسكرية، بل فلسفية بامتياز: إذ إن كل مشروع يُبنى على إقصاء الآخر لا يمكن إلا أن يُنتج الفوضى، لا باعتبارها خللًا، بل باعتبارها وسيلة لإعادة بناء المجتمع وفق منطق الهيمنة الأحادية. ومن ثم، فإن التواطؤ مع هذا المشروع، سواء بالصمت أو بالدعم غير المباشر، يعني بالضرورة إعادة إنتاج “الهتلرية المشرقية”، ولكن بلبوس ديني وشرعي هذه المرة، حيث يُصبح العرق أو المذهب أو اللغة سببًا مشروعًا للتطهير والحرق والطرد.
 
أما بخصوص العدالة الانتقالية، كما عرفها الفكر السياسي الحديث، ليست مسألة قانونية فحسب، بل هي تعبير عن إرادة سياسية تنشد إعادة التوازن الأخلاقي داخل المجتمع عبر كشف الحقيقة، ومحاسبة الجناة، وجبر الضرر، وضمان عدم التكرار. وفي الحالة السورية، لا يمكن إطلاق هذا المسار ما دامت قوى الأمر الواقع، سواء في دمشق أو في إدلب، تمارس العنف الرمزي والمادي، وتُحكم قبضتها على الجغرافيا البشرية، وتمنع أي خطاب بديل من التشكل أو الانتشار. فالجولاني، مهما غيّر مظهره الخارجي أو عدّل من لهجته في المقابلات الصحافية، يبقى سليل مدرسة فكرية لا تؤمن بالتعدد ولا تعترف بالتعايش، بل تستبطن سردية الخلافة بوصفها أعلى من الدولة، والمبايعة أعلى من المواطنة، والانتماء العقائدي أعلى من العقد الاجتماعي.
 
وتبعا لذلك، يظل الاستمرار في تجاهل هذا الواقع لا يهدد فقط مستقبل سوريا، بل الأمن الإقليمي ككل، لأن ما يجري في إدلب اليوم ليس سوى نواة قابلة للتوسع، تحت تأثير عاملين متلازمين: هشاشة الدولة المركزية، وتآكل اليقظة الإقليمية. وإذا لم يتم التعامل مع المشروع الجولاني كخطر بنيوي وليس فقط كحالة محلية، فإن المنطقة بأسرها ستجد نفسها أمام إعادة إنتاج النموذج الطالباني في قلب الشام، هذه المرة ليس كقوة متمردة، بل ككيان سياسي قائم يتم منحه الشرعية تحت ذريعة “الأمر الواقع”.
 
عموما، نقول بأن هذه اللحظة التاريخية الراهنة لا تحتمل المزيد من التردد أو الغموض، فالمطلوب اليوم ليس فقط موقفًا سياسيًا، بل مقاربة استراتيجية شاملة تُعيد تعريف ما يُسمى بالأمن الإقليمي، ليس بوصفه توازنا بين القوى، بل باعتباره فضاء أخلاقيًا وسياسيًا لا يمكن أن يُدار من قبل أمراء الطوائف ولا تجار العنف. فإما أن نعيد إلى سوريا مسارها التاريخي بوصفها دولة تعددية حامية لكل مكوناتها، وإما أن نتركها تتفكك لصالح مشروعات ما دون-وطنية، تقودها منابر الموت، وتُعيد إنتاج الجريمة باسم القداسة.