Monday 16 June 2025
سياسة

من الترافع إلى التخوين: الماكارثية تتسلل إلى النقاش الوطني حول الصحراء

من الترافع إلى التخوين: الماكارثية تتسلل إلى النقاش الوطني حول الصحراء ماء العينين محمد الغيث، الباحث في الشؤون الصحراوية
يستمر النقاش حول السجال الذي عرفته ندوة الحكم الذاتي التي نظمتها مؤسسة علي يعتة بالرباط مؤخرا، بين من وصف ساكنة مخيمات تندوف بأنهم محتجزين، في حين نفت عنهم كجمولة منت أبي، رئيسة المبادرة الصحراوية للتنمية المستدامة وحقوق الإنسان، هذا الوصف.. 
فيما يلي المقالة الموقعة باسم الأستاذ ماء العينين محمد الغيث، الباحث في الشؤون الصحراوية:


في الوقت الذي يحقق فيه المغرب مكاسب متسارعة على الساحة الدولية في ملف الصحراء، تبدو الجبهة الداخلية أحيانًا مثقلةً بسجالات لا تقل خطورة، ليس بسبب الآراء التي تُطرح، ولكن بسبب طريقة التعاطي معها. نموذج ذلك ما وقع في الندوة التي نظمتها مؤسسة علي يعتة بالرباط حول مبادرة الحكم الذاتي، والتي شهدت سجالًا حادًا بين الأستاذ عبد الفتاح نعوم والفاعلة الصحراوية كجمولة بنت أبي. 

السجال لم يتوقف عند أسوار القاعة، بل استمر عبر مقالات وتصريحات، كان أبرزها مقال نعوم الذي هاجم فيه ما أسماه “تمرير الدعاية الانفصالية” تحت غطاء حزبي، مطالبًا الحزب باتخاذ موقف واضح مما قيل. 

لكن المثير للانتباه ليس مضمون النقاش بقدر ما هو الأسلوب الذي بات يتكرر كلما برز صوت مختلف داخل المغرب حول موضوع الصحراء. إذ صار من المعتاد أن يُنصّب بعض المتحدثين أنفسهم أوصياء على الوطنية، يُوزّعون شهادات الولاء، ويُصنّفون الآراء إلى “صحيحة” و”مسمومة”، بل ويُحاكمون النيات السياسية والمؤسسات الحزبية، في تجاهل تام لتوجيهات جلالة الملك نفسه، الذي دعا مرارًا إلى احترام النقاش الوطني وعدم الانجرار إلى الشعبوية أو مهاجمة الخصوم بلغة الشتائم. 

من الدفاع عن المغرب إلى محاولة احتكار التعبير عنه 
أن يختلف مغربيان في توصيف أوضاع مخيمات تندوف - بين من يسميها احتجازًا ومن يراها وضعًا مركبًا - لا يفترض أن يؤدي إلى إعلان الطرد من جبهة الوطنية، خاصة حين يصدر هذا الطرد من طرف مثقف أو إعلامي أو أكاديمي، لا من جهة رسمية أو مؤسسة سيادية. 

المقلق هنا ليس الاختلاف، بل استسهال إقصاء الرأي الآخر باسم حماية الوحدة الترابية، في وقت يؤكد فيه الخطاب الرسمي، بل والخطاب الملكي نفسه، على أن قوة المغرب تكمن في انفتاحه لا في انغلاقه، في تعدد روافده لا في تنميطها. 

المفارقة المؤلمة: محاكاة خطاب الخصم بدل مواجهته 
لدى تتبع بعض المؤثرين الذين باتوا يقدَّمون بوصفهم مدافعين بارزين عن القضية الوطنية، نلاحظ مفارقة لافتة: 
الرد على الشعبوية الجزائرية يتم بشعبوية مضادة، والتحامل على منابر العداء يتحول إلى تحامل على أبناء الوطن أنفسهم. 
فجأة، يصبح من يختلف في التوصيف، أو في ترتيب الأولويات، أو في تحليل السياقات، في خانة المريب أو المتواطئ أو الخائن، حتى وإن كان من أبناء الصحراء، أو ممن خدموا البلاد من مواقع نضالية يصعب الطعن فيها. 

حين يُمتحَن حزب وطني أمام سلطة الرأي 
من بين أكثر اللحظات دلالة في مقال عبد الفتاح نعوم، تلك الجملة الافتتاحية التي قال فيها بالحرف: 
“ينبغي على حزب التقدم والاشتراكية أن يوضح موقفه من الطبيعة القانونية لساكنة مخيمات تندوف…” 
لم تكن هذه الجملة مجرد دعوة للنقاش أو توضيح موقف، بل كانت بمثابة “امتحان في الوطنية” يفرضه كاتب المقال على حزب وطني عريق. بلغة الواثق من امتلاك معيار الوطنية، يطالب الحزب بالخروج من “الرمادية” التي يتوهمها، وكأن أي موقف لا يتطابق مع تصوره هو خروج عن الثوابت، أو تواطؤ مع الخصم. 
لقد أصبحنا أمام ظاهرة مقلقة: مثقف أو أكاديمي يُصدر حكمًا على شرعية حزب سياسي، لا استنادًا إلى ممارساته التاريخية أو برامجه أو مواقفه الكبرى، بل بناءً على موقفه من توصيف قانوني معقد لحالة تندوف.
وكأن كل شيء في وطنية الحزب بات يتوقف على جواب وحيد على سؤال واحد، يضعه كاتب المقال، وينتظر منه الجواب الذي يُرضيه ليمنحه صك الوطنية. 

ومن يمثل الوطن؟ الشخص أم المعيار؟ 
لكن اللافت أكثر في ما جرى داخل تلك الندوة، أن الأمر لم يقتصر على اختلاف بين الأستاذ نعوم والسيدة كجمولة بنت أبي، بل إن ما كُتب لاحقًا من تعليق وتحليل، وضع – بشكل ضمني أو مباشر – كافة المتدخلين تحت سقف واحد من الشك والتقويم السياسي وفق معايير شخصية تُحدد من يستحق “الإجازة” في التعبير عن الوطن ومن لا يستحقها. 

فمن بين الحاضرين في الندوة، نجد الأستاذ البشير الدخيل، أحد أبرز المناضلين الصحراويين المغاربة، وأحد مؤسسي جبهة البوليساريو قبل أن ينفصل عنها ويعود إلى الوطن، في واحدة من أقوى الضربات الرمزية والسياسية التي وُجهت للجبهة الانفصالية.

الرجل، الذي لم يكتفِ بالمصالحة مع وطنه، بل جعل من قضيته أفقًا نضاليًا دوليًا، خاصة في أمريكا اللاتينية، يتعرض بشكل متكرر لهجوم مباشر من البوليساريو لأنه يشكل - بخطابه وشرعيته - تهديدًا لسرديتها، فكيف يتم تجاوزه أو التلميح إلى تشكيك في موقعه داخل الفضاء الوطني؟ 

كما حضر الندوة أيضًا الدكتور البلعمشي، رئيس المركز المغربي للدبلوماسية الموازية وحوار الحضارات، وهو مركز راكم خبرة تجاوزت العشرين سنة في التأصيل العلمي والميداني لمفهوم الدبلوماسية الموازية، وساهم في تكوين أجيال من المترافعين عن قضية الصحراء بلغات متعددة. 

أن تُوضع هذه الشخصيات كلها داخل مجهر خطاب يوزّع التقييمات والانذارات، وكأنها في حاجة إلى اجتياز امتحان الوطنية لدى طرف ثالث، هو أمر يكشف عن عمق الإشكال: 
نحن لا نواجه رأيًا ناقدًا، بل نواجه نزعة احتكارية ترى أن القضية الوطنية لا يفهمها حقًا إلا أصحاب “السردية الوحيدة”، وكل من يخرج عن عبارتها أو نسقها، يواجه التلميح أو التصريح بالخيانة أو الجهل أو السقوط في “الدعاية”. 

ولأجل هذا، وجب التذكير أن الدفاع عن مغربية الصحراء لا يكون بفسح المجال لانتشار أسلوب مرافعة عن القضية الوطنية يُنتج “نخبًا” عاجزة عن فهم التحول الكبير الذي راكمه المغرب؛ نخبٌ لا تتحمل هامش التعبير والثقة الذي أصبح يتيحه لأبنائه، ومكّن من مراكمة خطاب متعدد الزوايا يوصل الحقيقة المغربية إلى العالم من خلال أصوات وطنية متعددة، لا نسخ متكررة من نفس الشريط. 
 
خطابات جلالة الملك لا تُستخدم للمزايدة 
في مقاله، لجأ الأستاذ نعوم إلى الاستشهاد بخطابين ملكيين لتدعيم موقفه، وهو أمر مشروع من حيث المبدأ. لكن: 
اللجوء إلى الاقتباس من خطب ملكية لدعم هذا النوع من الهجوم، يتناقض مع الروح الحقيقية لهذه الخطب نفسها، التي أكدت مرارًا على أن: 
“هناك من يخدم الوطن بصدق، وهناك من يريد خدمة مصالحه من خلال الوطن… لكن لا يجب تضخيم الأمر، فهؤلاء الانتهازيون قلة، وليس لهم مكان بين المغاربة.”

(خطاب 6 نونبر 2014) 
فمن غير المعقول أن نُسقِط هذا الوصف على كل من يختلف في زاوية التقدير، أو يتحدث عن واقع ساكنة مخيمات تندوف بلغة أقل حدة، أو ينتقد تقصيرًا مؤسساتيًا لمواجهة خصوم المغرب إعلاميًا أو سياسيًا. 

خطابات جلالة الملك لا تُستخدم كأدوات للمزايدة، بل تُعتمد كمرجعية لبناء خطاب وطني رصين، جامع، ومنفتح، يُقوّي الجبهة الداخلية بدل أن يُفجّرها، ويُنمّي الثقة بدل أن يُذكي الشك. 

من الترافع إلى الإقصاء: المعركة التي نخسرها داخليًا 
إن أخطر ما يمكن أن يقع اليوم هو أن تتحول قضية الصحراء من لحظة تعبئة جماعية إلى ساحة اصطفاف إجباري، يُطلب من كل متدخل فيها أن يُردّد النغمة ذاتها، بنفس اللهجة، دون زيادة أو نقصان. 

والأخطر أن يُدفع أبناء الصحراء - الذين يعيشون ويدافعون عن مغربيتهم من داخل مؤسسات الدولة - إلى الهامش من طرف البعض لمجرد أنهم يتحدثون بلهجة مختلفة، أو يستعملون مصطلحات غير “معتمدة” في المعجم الجديد للمزايدة الوطنية. 
 
خاتمة: الدفاع عن الوطن لا يكون بإقصاء أبنائه 
إن المغرب، الذي قدم للعالم مبادرة حكم ذاتي واقعية وعقلانية، لا يُعقل أن يُقصي داخليًا أبناءه لمجرد اختلاف في أسلوب التعبير.
الذي يواجه خصومه بالحكمة، يجب أن يُخاطب أبناءه بالحكمة أيضًا. 
الوطن ليس بطاقة عضوية مغلقة. ومن يحبّ الوطن لا يطرد المختلفين من رحابه. 

لذلك، فإن بناء خطاب وطني متزن لا يعني التخلي عن الثوابت، بل الدفاع عنها بأسلوب يحترم عقول الناس وكرامتهم، ويستوعب تنوع أصواتهم، ويفصل بين الخصم الخارجي والاختلاف الداخلي. 
لأن الجبهة الداخلية لا تُحمى بإطلاق النار داخل الخندق.