Friday 30 May 2025
سياسة

بوعياش: النكبة الفلسطينية.. مأساة مستمرة ونداء إنساني للضمير العالمي

بوعياش: النكبة الفلسطينية.. مأساة مستمرة ونداء إنساني للضمير العالمي آمنة بوعياش، رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان
"في ذكرى النكبة الفلسطينية، نلتقي اليوم ليس لاسترجاع صفحة من الماضي فقط، بل للاستماع إلى مأساة لم تنتهِ بعد، وجُرح مفتوح في ضمير الإنسانية لم يندمل منذ سبعة وسبعين عامًا"، هكذا تحدثت أمينة بوعياش رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان، في ذكرى النكبة الفلسطينية، الأربعاء 28 ماي 2025 بالرباط، بحضور السفير الفلسطيني بالمغرب ورئيس دائرة شؤون اللاجئين بمنظمة التحرير الفلسطينية، حيث تم التأكيد على المفارقة المؤلمة بين إعلان حقوق الإنسان الذي وُلد في عام 1948 والنكبة التي وقعت في ذات العام، وهو ما يطرح تساؤلات حول مدى التزام المجتمع الدولي بالقيم الإنسانية والعدالة. 
فيما يلي الكلمة الكاملة لرئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان:
 
 
السيد السفير لدولة فلسطين بالمملكة المغربية
السيد رئيس دائرة شؤون اللاجئين بمنظمة التحرير الفلسطينية
الحضور الكريم، كل باسمه وصفته
نلتقي اليوم، في ذكرى النكبة الفلسطينية، لا لنسترجع صفحة من الماضي طُويت، بل لنُصغي إلى مأساة لم تنتهِ، وإلى جرحٍ مفتوح في ضمير الإنسانية لم يندمل منذ سبعة وسبعين عامًا.
عادةً ما تكون الذكرى، لحظات تأمل واستيعاب، نستحضر من خلالها آلام الماضي لنبني بها دروسا للمستقبل. غير أن ما نستحضره اليوم، ليس من قبيل الذكرى العابرة، بل هو واقعٌ يوميٌّ أليم، تتجدّد فيه المأساة، وتُسفك فيه الكرامة، وتُنتَهك فيه الحقوق. النكبة ليست حدثًا مضى، بل معاناة حيّة، مستمرة، تتردّد صورها والدلائل في تفاصيل الحياة، حقوق تُنتهك، كرامة تُداس، وحياة تُزهق.
ويا للمفارقة: ففي العام نفسه الذي وُلد فيه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948، كانت نكبةُ فلسطين، تهجيرًا، تقرع أبواب المأساة وسط صمت أو عجزٍ دولي، لم يحُل دون وقوع الجريمة ولا استمرارها. مفارقةٌ مؤلمة تُسائل الضمير الإنساني حتى يومنا هذا، وتطرح تساؤلات عميقة حول مصداقية الالتزام بالعدالة والمساواة، ومدى التزام المجموعة الدولية بتطبيق القيم التي تم التوافق حولها.
 
 
بعد سبعة وسبعين عامًا، الحضور الكريم، لا تزال هذه المفارقة حاضرة في الضمير الإنساني، وتُثير أسئلة عميقة بشأن الأمن والسلم، وواقع المساواة في تطبيق مبادئ كونية، سبعة وسبعون عامًا ولم تندمل الجراح، ولم تخفُت صرخات العائلات المهجَّرة، ولا اختفت أطلال القرى المدمّرة، ولا انطفأت نظرات الأطفال الذين يعيشون تحت الاحتلال أو في المنفى. إنها ذاكرة حيّة تُؤرّق الوجدان وتفضح التقاعس الأممي.
التذكير بهذا التزامن التاريخي، لا يعني التشكيك في قيم الإعلان ومبادئه الإنسانية، بل هو دعوة مفتوحة للتأمل في سبل تعزيز المنظومة الحقوقية الدولية، وضمان اتساقها في المبدأ والتطبيق، وتوسيع آفاقها وإطلاق مسارات جدية لقضايا لا تزال تنتظر الإنصاف.
وإذا كانت النكبة قد كشفت منذ بدايتها عن التعقيدات التي تطرحها قضايا حماية حقوق الإنسان على مستوى تعدد الأطراف، فإن استمراريتها تطرح بشدة التحديات التي تواجه كونية حقوق الإنسان في عالمنا المعاصر.
من هذا المنطلق، فإن ذكرى النكبة لا تمثل فقط استحضارًا لظلم تاريخي مستمر، بل تذكيرا بالحاجة الماسة وإعادة التأكيد، بإلحاح وتجرد، على القيم الكونية والمبادئ التي نصت عليها المنظومة الدولية لحقوق الإنسان.
إن القانون الدولي لحقوق الإنسان، الذي يُعد من أبرز مكتسبات البشرية، ليس عائقًا أمام ضمان حقوق الفلسطينيين، بل هو الإطار المرجعي الذي يُفترض أن يضمن للجميع، دون استثناء، التمتع بحقوقهم. فتفعيل هذه الحقوق واحترامها ليس خيارًا سياسيا أو أخلاقيا، بل ضرورة لا تحتمل التفاوض أو التأجيل.
إن الالتزام بهذه الحقوق لا يُعد فقط واجبًا قانونيًا، بل يُمثّل خط الدفاع الأول في وجه جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، ومخاطر الإبادة الجماعية. فحلول عادلة ودائمة بما فيها حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية، حلول تعتمد على إعمالٍ فعلي لمعايير حقوق الإنسان، ليس فقط باعتبارها مسألة إنسانية فحسب، بل أيضا ضمانة للاستقرار الجيوسياسي والكوني، واعتماد معايير حقوق الإنسان قد تنهض بمبادرات جماعية فعالة قادرة اليوم على فرض وقفٍ فوري ودائم لإطلاق النار، وتأمين الحماية للمدنيين، وتمكين الإنسان الفلسطيني من حقوقه الأساسية: في الأمن والسلم والغذاء، والماء، والتعليم، والعلاج.
لقد ترافعنا، كمؤسسة وطنية مستقلة لحقوق الإنسان، في مناسبات عديدة، لضمان هذه الحقوق وانسجامًا مع مواقف فاعلين حقوقيين على المستوى الإقليمي والدولي، ومع المواقف التاريخية للمملكة المغربية، التي تتميز بين انخراط فاعل في جهود السلام ودعم ميداني ملموس يجسده التزام جلالة الملك عبر مبادرات إنسانية وتنموية تضع الإنسان الفلسطيني في قلب الانشغالات والاهتمامات وعبر عمل دؤوب على أرض الواقع.
ونضم صوتنا لصوت زملائنا باللجنة الفلسطينية لحقوق الانسان لندائهم الإنساني العاجل للمجتمع الدولي والأمم المتحدة في هذه الذكرى، الذي شدد على اتخاذ إجراءات فورية وفعالة لفرض وقف دائم لإطلاق النار، وإنهاء الحصار على غزة، وضمان وصول المساعدات الإنسانية، والالتزام بقرارات الأمم المتحدة. إن استمرار الصمت، يؤكد النداء هو عجز المجتمع الدولي، يقوّضان أسس المنظومة القانونية الدولية ويهددان بإضفاء الشرعية على الجرائم المرتكبة، التي تستوجب وضوحًا سياسيا وأخلاقيا لا لبس فيه، تستبدل فيه التصريحات بالأفعال.
إن النكبة السيدات والسادة، ليست مجرد قضية فلسطينيين، بل هي اختبار حقيقي لضمير العالم، هي مرآةٌ لصدقية تعهداتنا الدولية، ولقدرتنا الجماعية على حماية المبادئ التي آمنا بها، وصغناها بتوافقنا لنقطع مع ويلات الحروب والتهجير.
النكبة ليست فقط مأساة فلسطينيين، بل مأساةٌ لمنظومة حقوق الإنسان نفسها، التي عجزت حتى اليوم، في القطع مع مآسي وفواجع الحرب، فالنكبة التي نعيشها اليوم، تُسائلنا جميعًا. والمأساة، وإن استمرت، لن تكون مأساة الفلسطينيين وحدهم بل مأساة الإنسانية جمعاء.
إن تخليد ذكرى النكبة اليوم، لحظة لمساءلة الضمير الإنساني لينهض ضد الحرب ويوفر الحماية للمدنيين.