عن منشورات ( النورس) التي يشرف عليها الكاتب والإعلامي عبد العزيز كوكاس وفي طبعة أنيقة صدرت الرواية الأولى للقاص محمد بنسعيد تحت عنوان( لهيب الجهات). الرواية، كما سيكتشف القارئ، ليست سردا ميكانيكيا لأحداث متخيلة ولا وصفة جافة لصور شخوص فبركها الكاتب واختبأ وراءها كي يكتب عن تجربة ذاتية ولا هي تكرار لنموذج سردي ما ظل عالقا بذهنه بعد نسيانه. ( لهيب الجهات) ليست هذا ولا ذاك وإنما هي رواية اكتملت بعد معركة طويلة لتكسير ذلك الزجاج اللامرئي الفاصل بين ظاهر الأشياء وجوهرها الغائر في تفاصيل الحياة. إنها إعلان فني يسعى إلى تحطيم نمطية النموذج الحكائي المتداول وبناء صرح نصي تدعمه الاسئلة المقلقة التي ظلت، وعلى مدار صفحاتها، توجع شخصية حامد التي تشكلت من صروف الحياة وندوب الواقع فأرهقت الجسد وأتعبت القلب والذاكرة ولم تفلت من قبضتها غير تلك اللغة التي بقيت وفية لها فأسعفتها في كل المواقف والحصارات فروت ما كان يجب أن يروى عن ذلك اللهيب الذي ظل مشتعلا في دواخلها حتى احترقت بالكامل. احترق حامد بلهيب وعيه المبكر وازداد احتراقا وهو حامل لشهادة الدكتوراه في علم الاجتماع وكلما حاول إخماده أو على الأقل التخفيف من حدة لظاه بالطيران بين الأمكنة وبالسفر نحو عوالم أكثر اتساعا حاصرته الجهات فتاه شريدا في الألم وتشتت ذراته بين الوطن والمنافي.
حامد شخصية مثقفة اهتزت لديها كل القناعات وتفككت لديها كل المسلمات فراحت تبحث عن يقين ما لا تدري أين يختبئ، أفي الوطن أم في أوطان الناس؟ أفي الآخرين أم في القدر الذي يكتب دون استشارة أحد؟ أفي الخرافة؟ في الصدفة؟ في شخصية حامد نفسها؟ عاش في الوطن فقسم ظهره وخلخل إيمانه حتى سكنته أشباح أهل (توزليفت) وفرمت جسده النحيل خرافات (دوار الليل) وآلمته غطرسة الحاج الرباطي ومن والاه فطار ما تبقى منه نحو البلدان البعيدة فعاش عاريا بالمدن الضاجة بالحنين حتى سكن البرد مفاصله وأرهقت قدميه المسافات ونخرت جسده الغربة غير أنه درس وحاضر بالجامعة وكتب للمجلات الأجنبية المحكمة وأحب بجنون كما كل الفارين من الضيم والحرائق. وجد الحب والسند وطيبة القلوب والفرص السانحة فابتسمت الحياة غير أن اللهيب ظل لهيبا فحاصرته هناك الجهات، الجهات الموغلة في الذاكرة، الجهات الجاثمة على الصدر، الجهات البعيدة، القريبة، الواقفة في الطريق كالجدار فاختلطت الأشياء وتشابكت الخيوط فضاع حامد بين قهر الأمكنة وسلطة الأزمنة وعنف الذاكرة.
( لهيب الجهات) رحلة سردية في عمق الذات الإنسانية عندما تحاصرها الجهات ويحولها لهيبها إلى رماد فتنهض كما طائر الفينيق لتحارب، دون هوادة، من أجل العدالة والحرية والحق في انسجام داخلي مع الحياة. هي رحلة أبعد ما تكون ذاتية أملاها ضيق الواقع ومحدودية الأفق ، إنها غوص في تجربة جماعية لجيل من البسطاء فقد القدرة على التوازن والهدوء النفسيين في عالم يدفع الإنسان بقوة نحو الهروب من كل شيء. رواية مفتوحة على كل التناقضات حيث يتشابك الواقعي بالمتخيل، الذات بالآخر، الحقيقة بالخرافة، الوطن باللاوطن، التكامل بالتشظي، التاريخ بالحاضر. هي رحلة سردية تمزق أغطية إخفاء الحقائق لتكشف عن معارك طاحنة خاضها حامد المثقف المناضل ضد القبح والقهر والفقر والجهل والخرافة وأساليب وأد الأحلام البريئة، ضد التسلط والقمع وكل أشكال المسخ والاقتلاع من الجذور. رحلة سردية هي ( لهيب الجهات) تقترف الانزياح عن المألوف والتقليدي حيث تستثمر إمكانات فنية وجمالية بطرائق مغايرة تنفتح من خلالها فضاءات واسعة أمام القارئ ليحلق فيها بعيدا فيكتشف بوعيه وبانفعالاته الملتهبة عمق المحنة الجماعية في وطن يعصرنا حبا وألما وفي أوطان توفر كل شيء سوى النسيان.
