في وقت يخفت فيه صوت الدعم العربي الرسمي للقضية الفلسطينية، إلى الحد الذي يظهر فيه أن الفلسطينيين متروكون لمواجهة الموت بأياد عزلاء وصدور عارية؛ وفي وقت بلغت الآلة العسكرية الإسرائلية، بعد السابع من أكتوبر 2023، أقصى درجات وحشيتها بالمضي قدما، ودون رادع إنساني أو حقوقي، في طريق إبادة شعب بكامله (أكثر من 50 ألف قتيل)، تحرك الملك محمد السادس بسرعة وحزم، ومنذ بداية العدوان، لإغاثة سكان غزة المحاصرين بنيران الاحتلال الذي ما زال يضرب عليهم بلا هوادة طوقا عسكريا كبيرا، جوا وبرا وبحرا.
ففي 13 أكتوبر 2023، ومع تساقط القذائف من الطيران الإسرائيلي على غزة، قال الملك "المغرب لا يمكن أن يقف موقف المتفرج أمام هذه المأساة". وكان أمرًا ملكيًا إلى الحكومة لا يحتمل أي تأخير، ولا يقبل أي تسويف، إذ تحركت القوات المسلحة المغربية، وجهزت طائرات الإغاثة في وقت قياسي، مما جعل المغرب واحدًا من أوائل الدول التي وصلت مساعداتها إلى غزة في أقل من عشرة أيام من بداية الحرب.
لم يكن التحرك الملكي، إذن، في شكل بيانا تضامني فقط، بل كان عبر إرسال مباشر للمساعدات الإنسانية، والتنسيق الفوري مع الجهات المعنية لوصول الإغاثة إلى الفلسطينيين، فضلا عن الإعلان الصريح في كل المنتديات الدولية، وعبر آلياته الديبلوماسية، عن التزامه القوي والراسخ تجاه القضية الفلسطينية، ودعمه لحل الدولتين، وللقدس عاصمة لفلسطين. ومن ذلك مرافعة ممثل المغرب بلاهاي السفير محمد البصري في جلسات الاستماع التي عقدتها محكمة العدل الدولية في فبراير 2024، والتي ارتكزت على المبادئ التي كرسها "نداء القدس" الموقع في الثلاثين من مارس 2019 بين الملك محمد السادس والبابا فرانسيس. إذ جددت المغرب «التزامه الفاعل من أجل احترام القانون الدولي والنهوض بالسلام في الشرق الأوسط، والذي يمر عبر حل عادل وشامل ودائم، قائم على مبدأ الدولتين» دولة فلسطينية مستقلة على أساس حدود 4 يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، تعيش جنبا إلى جنب مع دولة إسرائيل، في سلام وأمن، طبقا للشرعية الدولية، ولقرارات منظمة الأمم المتحدة، وامتدادا لمبادرة السلام العربية».
وتؤكد هذه الوثيقة الهامة، بالخصوص، على «أهمية المحافظة على مدينة القدس الشريف، باعتبارها تراثا مشتركا للإنسانية، وبوصفها، قبل كل شيء، أرضا للقاء ورمزا للتعايش السلمي بالنسبة لأتباع الديانات التوحيدية الثلاث، ومركزا لقيم الاحترام المتبادل والحوار. ولهذه الغاية، تنبغي صيانة وتعزيز الطابع الخاص للقدس الشريف كمدينة متعددة الأديان، إضافة إلى بعدها الروحي وهويتها الفريدة. لذا، فإننا نأمل أن تكفل داخل المدينة المقدسة حرية الولوج إلى الأماكن المقدسة، لفائدة أتباع الديانات التوحيدية الثلاث، مع ضمان حقهم في أداء شعائرهم الخاصة فيها، بما يجعل القدس الشريف تصدح بدعاء جميع المؤمنين إلى الله تعالى، خالق كل شيء، من أجل مستقبل يعم فيه السلام والأخوة كل أرجاء المعمورة».
المرافعة أكدت أن تسوية النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني عن طريق الحوار والتفاوض تظل حجر الزاوية من أجل سلام واستقرار دائمين بالشرق الأوسط" كما تطرقت إلى "توافق المجموعة الدولية حول الوضع القانوني للمستوطنات الإسرائيلية فوق أجزاء من الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية»، وأن المستوطنات «تشكل عائقا أمام السلام وتهدد بجعل حل الدولتين مستحيلا».
ويتجسد هذا هذا الالتزام، أيضا، عبر دعم سياسي وديبلوماسي وإنساني متعدد الأبعاد وثابت ومستمر، لم تنل منه التقلبات أو الحسابات الجيو- سياسية أو الجيو- استراتيجية التي يفرضها الصراع الإقليمي والدولي على المغرب. ولعل هذا ما أكد عليه خطاب الملك في الذكرى 25 لعيد العرش (2024)، خاصة ثبات الموقف المغربي المؤمن بعدالة القضية الفلسطينية، والمسؤولية التاريخية للمملكة التي تؤهلها لأن تلعب دور «الوسيط الموثوق» في هذا الصراع. وتحدث الخطاب عن أن المغرب يواصل «دعم المبادرات البناءة، التي تهدف لإيجاد حلول عملية، لتحقيق وقف ملموس ودائم لإطلاق النار، ومعالجة الوضع الإنساني.»، مشيرا إلى أن رؤيته في هذا الإطار تقوم على «أنه إذا كان التوصل إلى وقف الحرب في غزة أولوية عاجلة، فإنه يجب أن يتم بموازاة مع فتح أفق سياسي؛ كفيل بإقرار سلام عادل ودائم في المنطقة». و«لن يكتمل الحل إلا في إطار حل الدولتين، تكون فيه غزة جزءا لا يتجزأ من أراضي الدولة الفلسطينية المستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية».
إن تجديد الإعلان عن الموقف الثابت يؤكد، لمن يحتاج إلى تأكيد، أنه لا مكان للمزايدات على مواقف الرباط من القضية الفلسطينية، وأنها اختيار استراتيجي ومبدئي وعقدي منحاز إلى فتح أفق لحل سياسي دائم يمهّد الطريق لقيام دولة فلسطينية، بضفتها وقطاعها وقدسها. وهذا ما ظلت تترجمه كل المواقف الملكية منذ 1999، كما تعبر عن ذلك الرسالة التي وجهها الملك محمد السادس في نونبر 2022، بمناسبة تخليد اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني، والتي أكدت: «بقدر ما نؤكد أن حالة الانسداد في العملية السياسية بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي لا تخدم السلام الذي نتطلع إلى أن يسود المنطقة، نشجع الإشارات الإيجابية والمبادرات المحمودة المبذولة لإعادة بناء الثقة بهدف إطلاق مفاوضات جادة كفيلة بتحقيق حل عادل وشامل ودائم للقضية الفلسطينية، وفق قرارات الشرعية الدولية، وعلى أساس حل الدولتين باعتباره خيارا واقعيا».
ويتضح من ذلك أن الملك، ومنذ اعتلائه العرش قبل أكثر من ربع قرن، قاد سلسلة من المواقف والمبادرات بصفته رئيسا للدولة المغربية، وأيضا بصفته رئيسًا للجنة القدس، إذ لم يُغفل أي فرصة لإعادة التأكيد على التزام المغرب بمساندة الفلسطينيين. ففي رسالته إلى قمة منظمة التعاون الإسلامي المنعقدة في إسطنبول بتركيا في دجنبر 2017، بعد قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، اعتبر الملك أن هذا القرار «خرق سافر للشرعية الدولية»، داعيًا إلى تحرك عاجل لحماية الطابع القانوني للمدينة. وفي 2021، خلال العدوان الإسرائيلي على غزة، وجّه العاهل المغربي أوامر بإرسال مساعدات إنسانية عاجلة للفلسطينيين، بلغ وزنها 40 طنا، ووُزعت عبر طائرات عسكرية مغربية. وهو ما تزامن مع دعوات صريحة من الرباط لوقف التصعيد واحترام القانون الدولي. وفي مارس 2023، أكد بلاغ الديوان الملكي، ردا على حزب العدالة والتنمية، أن موقف المغرب من القضية الفلسطينية «لا رجعة فيه، وتعد من أولويات السياسة الخارجية للملك محمد السادس الذي وضعها في مرتبة قضية الوحدة الترابية للمملكة».
والجدير بالذكر أنه رغم استئناف المغرب علاقاته مع إسرائيل في دجنبر 2020، ضمن اتفاق ثلاثي رعته واشنطن وانتهى بالاعتراف الأمريكي والإسرائيلي بمغربية الصحراء، لم يتراجع الموقف الرسمي المغربي من القضية الفلسطينية. بل سارع الملك محمد السادس إلى الاتصال بالرئيس الفلسطيني محمود عباس، بعد التوقيع على الاتفاق، ليؤكد له أن «المغرب يضع القضية الفلسطينية في مرتبة قضية الصحراء المغربية»، وذلك تفاديا لخلط الملفات، وتأكيدا لاستمرار دعم فلسطين، وفق موقف ثابت لا يتغير. ومنا هنا، فإن فلسطين، في قلب الاتفاق الثلاثي، لا تزال تمثل القضية الأم، تلك التي لا يمكن أن تُختزل في اتفاقات سياسية أو مصالح مرحلية، لأنها أولا ليست مجرد ملف دبلوماسي، بل هي مزيج من العزة الكامنة في قلب كل عربي، وصرخة في وجه الظلم العالمي. كيف يمكن للسلام أن يتحقق في ظل إصرار الاحتلال على ابتلاع الأرض والإنسان؟
إن فلسطين ليست ورقة يمكن بيعها في مزاد سياسي، ولا يمكن مقايضتها بمصالح اقتصادية أو أمنية تصيب القضية الفلسطينية في مقتل، كما يردد أعداء وحدتنا الترابية. هي وطن حقيقي في قلب الأمة، ولا يمكن التنازل عنه. وما المسيرات المليونية التي تحوب الشوارع المغربية، والتي تتم موافقة من السلطات المغربية، إلا دليلا على أن المغرب متحيز، ملكا وشعبا، لدماء الفلسطينيين ضد آلة القتل الإسرائيلية. ومن ثم، وكما وضح بيان الديوان الملكي، فإن ما يميز فلسطين عن بقية القضايا في المنطقة هو أنها ليست مجرد ورقة سياسية يمكن بيعها أو مقايضتها. إنها قضية حقوقية وإنسانية في المقام الأول، قضية تتعلق بحق الشعوب في العيش بسلام على أرضها، وحماية مقدساتها.
إن التزام الملك محمد السادس بالقضية الفلسطينية لا يخضع لمنطق الموقف السياسي العابر أو البلاغات الإعلامية العابرة، بل يتعداه إلى الفعل في الميدان، من خلال تفعيل دورة كرئيس للجنة القدس، من خلال انخراط مؤسساتي مستمر، يترجمه الحضور الميداني المغربي في القدس، والمواقف السياسية المتوازنة التي تتيح للمغرب إمكانية التدخل في الظروف الحرجة. وليس أدل على ذلك من نجاح الملك في إطلاق سلسلة من التدخلات الإنسانية، استهدفت تخفيف معاناة الفلسطينيين، لا سيما النساء والأطفال والمصابين، بعد الهجوم الغاشم لقوات الاحتلال الإسرائيلي على غزة، وتجويع شعبها، وتقتيل النساء والشيوخ والأطفال. فكان المغرب بذلك أول دولة عربية تُدخل المساعدات عبر معبر رفح، وذلك بتعليمات مباشرة من الملك، حيث أعلنت وزارة الخارجية المغربية في 23 أكتوبر 2023 عن إرسال مساعدات إنسانية عاجلة إلى غزة، تم نقلها جوًا إلى مطار العريش المصري، ثم إدخالها عبر معبر رفح الحدودي، في خطوة لاقت إشادة من الهلال الأحمر الفلسطيني ومنظمات دولية. وقد شملت المساعدات: أكثر من 25 طناً من المواد الغذائية الأساسية؛ أدوية ومعدات طبية عاجلة، خاصة لمستشفيات الجنوب؛ حليب الأطفال ومستلزمات النظافة لفائدة العائلات المتضررة.
ومن أوجه التدخلات الملكية لتخفيف المعاناة عن الفلسطينيين، تدخل الملك سخصيا لدى إسرائيل لحل أزمة الاموال الفلسطينية المحتجزة لدى اسرائيل، من أجل صرف رواتب الموظفين كاملة مع كامل المستحقات المترتبة على الحكومة اتجاه موظفي دولة فلسطين.
إن التزام الملك محمد السادس بالقضية الفلسطينية ليس مجرد شعار يُرفع للاستهلاك السياسوي، بل هو حضور دائم على الأرض، وأفعال ملموسة تتنقل بين شوارع القدس ومرافقها. ولذلك يظل المغرب ثابتًا في قناعاته، دون أن تتأثر مواقفه بالتغيرات الدولية أو الضغوط السياسية.
تفاصيل أوفى تجدونها في العدد الجديد من أسبوعية "الوطن الآن"