الثلاثاء 25 مارس 2025
كتاب الرأي

عبد السلام بنعبد العالي: نحو ازدواجية مناضلة

عبد السلام بنعبد العالي: نحو ازدواجية مناضلة عبد السلام بنعبد العالي

واقع الازدواجية هو أيضا واقع من يتحدثون اللغة العربية ويكتبون بها

في توضيحه لما كان يقصده بما كان يدعوه "نقدا مزدوجا"، بيّن المرحوم عبد الكبير الخطيبي أن الازدواجية لم تكن تعني عنده أن النقد ينصب على الميتافيزيقا الغربية، ثم على نظيرتها الإسلامية. إن "النقد المزدوج"، على العكس من ذلك، يتخذ طريقه بين هذه وتلك، وهو، كما يقول، "مجابهة بين الميتافيزيقا الغربية والميتافيزيقا الإسلامية". إذ وحدها، كما كان قد كتب: "وحدها مغامرة فكر متعدد (متعدد الثقافات واللغات والبناءات التقنية والعلمية) من شأنها أن تضمن لنا عبور هذا القرن على المستوى الكوكبي".

 

قد لا نذهب حتى الحديث مع المرحوم عن "مواجهة" بين شكلي الميتافيزيقا الغربية والإسلامية، فنفضل الحديث عن "تشابكهما"، ولعل هذا ما كان صاحب "عشق اللسانين" قد أشار إليه في حوار توضيحي يشرح فيه عنوان كتابه: "إنه نقد مزدوج، لأنه يتم في لغتين، وعلى أرضيتين تاريخيتين وميتافيزيقيتين. فلعل الفكر المتاح لنا اليوم موجود بين لغتين".

 

ينطلق المفكر المغربي منذ البداية من التسليم بأن وضعيتنا، نحن العرب، هي وضعية بيْنية، وضعية تعددية، إلى حد أننا يمكننا أن نذهب حتى الزعم بأن الازدواجية والتعدد اللغوي والثقافي هما واقعُنا المعيش، بل لعلهما حظنا السعيد (Notre chance).

 

واقع الازدواجية هذا ليس اليوم واقع من يتحدثون ويكتبون بلغات أجنبية فحسب، وإنما حتى الذين يتحدثون العربية ويكتبون بها. إذ إن "كل لغة هي، بمعنى ما، لغة أجنبية عن نفسها، عن إطارها القومي. لأن الأدب ينغرس في شجرة أنساب نصية، وهي نفسها شجرة أسطورية" كما كتب الخطيبي نفسه. ذلك أننا لا نفتأ نستعمل لغات أخرى غير لغتنا، ونوظف نماذج نستمدها من خارج ثقافتنا، وهذا حتى إن اقتصرنا على استعمال العربية لغة. إضافة إلى أننا، كما يؤكد جاك دريدا في "أحادية لغة الآخر"، لا يمكننا إلا أن نحيا هذه المفارقة: "أن لا نتكلم إلا لغة واحدة"/"أن لا نتكلم قط لغة واحدة".

 

على هذا النحو تغدو "بابل"، كما هي في التراث الديني، هي الفرصة السعيدة التي أتاحها الرب للبشر لكي لا يقتصروا على امتلاك لغة يتقاسمونها، وإنما لكي يتوفروا على ألسن متعددة. ما تقوله "بابل" هو أن قدَر البشر ليس يقين الكلمات الذي لا يقبل التقاسم، وإنما الأشكال المتعددة للفهم. اللغة موروث بشري، أما الكلام فهو فعل. يتعلق الأمر بلم البشر انطلاقا من هذا الفعل الذي تشتت منذ "بابل" في أصوات متعددة، وأنحاء مختلفة، ودلالات وكتابات وحروف هجاء متباينة. هذا اللم والتشابك هو فعل الترجمة بلا منازع.

 

الوضع البشري إذن هو أصلا "وضع ترجمة". لعل هذا الوضع لا يبعد عما يدعوه جاك دريدا نفسه "الترجمة المطلقة"، أي الترجمة التي لا تُقيد، ولا تُربط بأصول تستنسخها. كأنما يُلقى بازدواجيي اللغة دائما في هذه "الترجمة المطلقة"، التي هي، كما يقول: "ترجمة من غير قطب يحال إليه، من غير لغة أصلية، من غير لغة منطلق". فليس هناك، إن شئنا، سوى لغات وصول. كأن ما يهم في الأمر ليس استنساخ لغة أصل، وإنما حركية النقل ذاتها، وتشابك اللغات فيما بينها.

 

كأننا لسنا دائما إلا أمام ترجمة. ربما لأجل ذلك فإن الترجمة عندنا لم تعد تعقب كتابة نصوصنا أو تأتي بعدها، وإنما أصبحت تتخللها. وهي لم تعد بالنسبة إلينا مجرد عملية نقل لغات ونصوص، وإنما صارت أسلوب تفكير، بل أسلوب حياة ونمط عيش. كل ما نكتبه أو نقوله بلغتنا مشروط بلغات أخرى متضمن لها. لقد صارت الترجمة واقعنا المعيش. إنها نوع من الازدواجية المناضلة التي تجعلنا لا نكتفي بالنظر إلى لغة المستعمِر كـ"غنيمة حرب" كما قيل، بل كـ"حصيلة صيد وقنص"، إذ إننا صرنا نحن الذين نسير نحوها كي نتملكها ونتفاعل معها و"نترجمها"، ولا نكتفي بأن نعثر عليها جاهزة بين مخلفات المستعمِر.

 

كتبت الفيلسوفة باربرا كاسان: "لا نتفلسف إلا بلغات بصيغة الجمع". فليست التعددية اللغوية هي أن نكون أمام كثرة من الواحديات اللغوية، وإنما هي أن تتشابك هذه اللغات في عمليات ترجمة. فكما لو أن التعددية لا تحيل إلى كثرة. لنقل إذن إن التعددية أحادية مشروخة. إنها تحيل إلى مفهوم مغاير عن الوحدة، وتُوجه الفكر نحو مفهوم متجدد للواحد، فتتساءل: كيف نحدد الكل كي لا يكون وجود كل جزء من هذا الكل في حالة استقلال وظهور مفاجئ. فنحن أمام "صوت واحد للكل في مجموعه، ذلك الكل الذي يصدح بأصوات متعددة" على حد تعبير دولوز.

 

وعودة إلى الخطيبي، حيث كان قد كتب: "ليست الازدواجية اللغوية، وتعدد اللغات، مجرد علاقات خارجية بين لغة وأخرى- بين لغة المصدر ولغة الوصول على حد قول اللسانيين- وإنما هي عناصر تدخل ضمن النسيج البنيوي لكل فعل كتابة، لكل غزو للمجهول تعبر عنه الكلمات. في كل كلمة، وفي كل اسم أو لقب ترتسم دوما كلمات أخرى، كتابتها الضيْفة. في كل كلمة كلمات أخرى، في كل لغة لغات أخرى".

 

يُنقل عن هومبولت، فيلسوف التعدد اللغوي قوله: "في الواقع، لا يتكلم المرء لغته جيدا إلا بمقارنتها بلغة أخرى، فنحن لا ندرك نظام اشتغال اللغة إلا عندما نقارنها بنمط اشتغال لغة أخرى". لا تشتغل اللغة إلا مقارنة بأخرى، وفي اقتران معها. لا تشتغل ولا تتطور إلا في/وبحركة اختلافها مع اللغات الأخرى. بهذا المعنى لا يمكننا التفكير في المتعدد من غير إقامة جسور بين الاختلافات، من غير أن نؤكد الاختلافات في علاقاتها المتبادلة. على هذا النحو فإن وضعية الترجمة التي تحدثنا عنها، تعني مراعاة الاختلاف، وإرساء مفهوم مغاير عن الوحدة، بعيدا عن أن يكون مجرد مقابل للتعدد مناقض له، أو مجرد استعادة لوحدة أصلية، لكي يغدو رعاية للتعدد، وتدبيرا له، لكي يكون تدبيرا للاختلاف.

 

يتضح إذن أن الترجمة، بهذا المعنى، هي التمرين الفكري الحقيقي اليوم، أي التمرين الأول الذي سيهيئ لغتنا كي تغدو أداة فكر فلسفي، ويهيئنا لأن نكون أهلا لتراثنا بألوانه المتعددة، وأهلا لمواكبة كل تجدد. إذ ليس من السهل أن نستأنف تراثنا بأصواته جميعها، دون أن نُعد له اللغات المناسبة، ودون أن نعيد هيكلة عالم المعنى الذي ستقوله تلك اللغات، ذلك العالم الذي لا يمكن أن ننفتح عليه إلا باعتماد فلسفة مغايرة تسعى إلى ملاحقة نبضات الحياة المعاصرة.

عن "مجلة المجلة"