يناقش الدكتور نزيه حاجبي، المتخصص في قضايا الإعاقة والفقر والهشاشة الاجتماعية، في حواره مع "أنفاس بريس" ظاهرة "القفّة الرمضانية" وغيرها من المساعدات الإحسانية التي تُوزَّع في المغرب، مؤكدًا أنها لا تسهم في الحد من الفقر، بل على العكس، تكرّس واقعًا اجتماعياً يعيد إنتاجه ويطبع معه.
كما يتناول الحوار أسباب استمرار الفقر وتفاقمه بعد عقود من الاستقلال، رغم الميزانيات الضخمة التي أنفقت في سبيل التنمية البشرية. ويسلّط الدكتور حاجبي الضوء على إشكالية التعامل مع الفقر بالمقاربات الإحسانية السطحية بدل البحث عن حلول جذرية تحفظ كرامة المواطن وتمكّنه من العيش بكرامة من خلال العمل والتنمية المستدامة.
ويطرح الدكتور حاجبي رؤية نقدية لدور الدولة والمجتمع في التعامل مع الفقر، مشددًا على ضرورة تبني سياسات عادلة وإصلاحية بدل اللجوء إلى مبادرات إحسانية تساهم في ترسيخ ثقافة العجز والاتكالية.
على هامش توزيع القفف الرمضانية، يتم توزيع قفف في مناسبات أخرى غير رمضان. لكن ما يثير الانتباه كثرة الفقراء في المغرب، جل السكان يشكون ويتشكون، تلثي سكان المغرب من دون كرامة. كيف تفسر الظاهرة بعد مرور 60 عاما بعد الاستقلال؟
رفع المغرب شعارات استراتيجية، ووضع رهانات كبرى مطلع استقلاله منتصف القرن الماضي. يتلخص ذلك في قولة محمد الخامس حينئذ “لقد خرجنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر”، جهاد تنموي شامل في كل قطاعات البلاد. ومن خلال استقراء برامج الحكومات المتعاقبة نجد أنها أنفقت ميزانيات ضخمة لتحقيق التنمية البشرية وتحسين المعيشة ومكافحة الفقر. في المقابل تشير الإحصائيات أن الذي حدث هو العكس، تم تكريس الفقر في الوسطين الحضري والقروي، وترسخت آلياته بشكل جلي خاصة مع وسائل التواصل الاجتماعي.
بحسب الإحصاءات الأخيرة انتقل عدد الفقراء في المدن من 109.000 فقير في المدن سنة 2019 إلى 512.000 فقير سنة 2022 بزيادة بلغت 22.2%، هذا التصاعد ليس وليد اللحظة، فخريطة الفقر في المغرب تظهر مدى التباينات المجالية للفقر، خاصة عندما نتحدث عن الفقر متعدد الأبعاد “التعليم، المعيشة، الصحة، الإعاقة“ الذي يعتبر ظاهرة قروية بامتياز حيث ترتفع درجات الحرمان بكل أنواعه.
بحثا عن أسباب هذا الوضع، نجدها في الغالب أسبابا بنيوية، سياسيا واقتصاديا وطبيعيا وغيرها. في المقابل نجد أن المغرب يتعامل معها، دولةً ومجتمعًا، بسطحية وتغليب المقاربة الإحسانية، ليس إحسانا بمعناه الديني، الذي يفترض السرية والتعفف وحفظ كرامة المحتاج، بل لأغراض سياسية أو شخصية وما ترتبط بهما من التقاط للصور مع الفقراء أثناء عملية توزيع المساعدات، ليتحول الفقير إلى كائن لا يتم الاعتراف به إلا في سياق نزع كرامته عيانا. وتحول الفقر عمليا إلى نوع من العنف الرمزي يشارك في إعادة إنتاجه كل أغلب شرائح المجتمع على وسائل التواصل الاجتماعي. ما توزيع القفف إلا آلية من آليات إعادة إنتاج الفقراء الذين باتوا يهرعون إلى تسويق فاقتهم أو اصطناعها طلبا لقفة من هنا أو هناك...وبالتالي فهذه الآلية لن تقلص الفقر بل ستزيده وتشجع عليه وعلى تفشي مظاهر سلبية أخرى كالاتكالية والعجز والانتظارية. إن القفة الرمضانية وغيرها من المبادرات الإحسانية غير المبنية على منهج إنساني وتنموي وقيمي ستؤدي إلى نتائج عكسية تطبع مع الفقر، فيتحول المشهد من فقراء بكرامة إلى فقراء بلا كرامة.
لكن، لماذا لم نتمكّن من تحقيق الكرامة الإنسانية للمواطن المغربي، إذ من المفروض أن نوفّر المدخول بكرامة، وليس بقفة؟
كلّ مشكل بنيوي يحتاج حلاّ جذريا وفقا للقاعدة الفيزيائية التي تقول بأن لكل فعل رد فعل يوازيه في القوة والاتجاه. انطلاقا من هذه القاعدة فظاهرة الفقر ممتدة في بنيات المجتمع المغربي، تمس جوهر الانسان ووضعه الاعتباري داخل مجتمعه، فينعكس ذلك على كرامته وآدميته، وقيمه العليا وشخصه الإنساني. من تجليات ذلك أن يتحمل الإنسان كل أنواع الأذى إلا الوقوف على أبواب الناس سائلا أعطية، كرامته تقف بينه وبين إظهار فاقته وعرضها أمام الناس، وأن يموت أهون عليه من أن يريق ماء وجهه. كلنا يعرف أبيات الشافعي التي قال فيها:
لَقَلعُ ضِرسٍ وَضَربُ حَبسِ وَنَزعُ نَفسٍ وَرَدُّ أَمسِ
وَقَرُّ بَردٍ وَقَودُ فَردِ وَدَبغُ جِلدٍ بِغَيرِ شَمسِ
وَأَكلُ ضَبٍّ وَصَيدُ دُبٍّ وَصَرفُ حَبٍّ بِأَرضِ خَرسِ
وَنَفخُ نارٍ وَحَملُ عارٍ وَبَيعُ دارٍ بِرُبعِ فِلسِ
وَبَيعُ خُفٍّ وَعَدمُ إِلفٍ وَضَربُ إِلفٍ بِحَبلِ قَلسِ
أَهوَنُ مِن وَقفَةِ الحُرِّ يَرجو نَوالاً بِبابِ نَحسِ
ويحكى أن رجلا كان يتفقد امرأة عجوزا فقيرة، فنسيها ثلاثة أيام لم يزرها، ثم ذهب إليها فوجدها لا تطيق الحركة من شدة الجوع والألم، فقال لها لِمَ لَمْ تدقي بابنا أو باب جيراننا؟ ولأنها كانت كريمة النفس، أبية عفيفة، كان جوابها يطابق كرامتها: والله والله مرتين، لحفر بئر بإبرتين، وكنس أرض الحجاز طرًّا في يوم ريح بريشتين، وحمل ثورين باليدين، ونزع طودين شامخين، وغسل عبدين أسودين حتى يصيرا أبيضين، ولا وقوفي على باب لئيم يضيع فيه ماء عيني.
إنّ الدولة بكل أجهزتها ومؤسساتها موجودة من أجل حفظ هذه الكرامة والذود عنها، من خلال سياسات وبرامج إصلاحية جدية تهم توفير السكن والعمل والخدمات الأساسية للعيش الكريم، وأن يتمكن المواطن من شروط مواطنته، وهي الانتماء للأرض، المشاركة الفعالة، المساواة والعدالة، وأكيد أن القفة في شكلها الراهن لا يحفظ الكرامة ولا يحقق هذه الشروط. إنما تكرس “القفة“ مبدأ الاغتراب لا الانتماء، والإقصاء لا المشاركة، والميز لا العدالة، هي سياسة ترقيعية لخدمة أغراض كثيرة إلا غرض ذلك الفقير المحتاج الذي أريق ماء وجهه. بداية كل رمضان تتهافت الأحزاب تحت شعارات براقة لتوزيع القفف الرمضانية من أجل تلميع صورتها وإخفاء عجزها وفشلها في الوفاء بالوعود التي قطعتها في حملاتها الانتخابية، وذات الشيء بالنسبة للجمعيات ومؤسسات أخرى...
كلّ الدول فيها الفقر، لكن يبقى في نسبة محدودة، وليس ما بين 50 % و60% كما هو الحال عندنا بالمغرب. كيف يفسّر ذلك؟
بيّنت بعض الجواب في السؤال الأول، وأضيف أنه لا يخلُ بلد من نسبة فقر معينة، تتفاوت حسب إمكانات ذلك البلد وموارده الطبيعية والبشرية، لكن من غير المقبول أن نتعامل مع تلك النسبة وكأنها لا مرئية. لذلك فاستمرار نسب الفقر وتصاعدها يفسر بتفسيرات كثيرة، منها انعدام القدرة على التوفيق بين ثلاثية الثروة والقيم والكرامة الإنسانية. مما سيجعلنا متخلفين عن الأحداث ومواكبة التقدم، وعرضة كذلك للمفاجآت وقتل روح المبادرات، وبالتالي عدم القدرة على توجيه المسار إلى المصير. دون أن ننسى أن التنمية الشاملة تنبع من صلب بناء المجتمع وفيها الإنتاج والابتكار والتجديد.
إذن، ما المداخل لتجاوز هذا الوضع؟ وهل هذا مرتبط بالسياسة العمومية أم بتوزيع الثروة أم بمن يحكم المغرب أم ماذا؟
تخبرنا النظرية العلمية حول الصّراع، أن الصّراع الطبقي هو المحرّك للتّاريخ وبه تنتقل المجتمعات من حالة إلى أخرى. وعملية التغيير هذه هي نتيجة حتمية للصراع والذي تعد أطرافه طبقتين أساسيتين هما طبقة مالكة لوسائل الإنتاج والثروة ومهيمنة على السلطة، وطبقة فاقدة لها وتعامل كإحدى وسائل الإنتاج. لكن عندما يصبح الأمر استبداديا في يد القلة التي تعيش إلى حد التخمة مقابل أن تعيش الكثرة إلى حد الجوع المدقع، تنتفي كل شروط الكرامة والحرية، تلك الحرية التي دافع عنها أمارتيا صن في كتابه “التنمية حرية“، حيث ربط بين حرية الإنسان بحرية المؤسسات، باعتبار أن التنمية تتوقف على مجموعة من المحددات، منها دخل الأفراد والحقوق السياسية، “لكن الحريات تتوقف على محددات أخرى، مثل التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية “مثل مرافق التعليم والرعاية الصحية“... تستلزم التنمية إزالة جميع المصادر الرئيسية لافتقاد الحريات: الفقر والطغيان، وشحّ الفرص الاقتصادية، وكذا الحرمان الاجتماعي المنظّم وإهمال المرافق والتسهيلات العامة، وكذا عدم التسامح أو الغلو في حالات القمع”. وهذا جوابي عن سؤال ما الحل لتجاوز الوضع القائم.