في كل الأزمات، سياسية، اجتماعية، اقتصادية أو غيرها، وعبر الأزمنة باختلافها، يُطرح إشكال الثقة كعنصر محوري، من شأنه أن يساعد إما على زرع الاطمئنان أو الرفع من مستويات الاحتقان. وإذا كانت الثقة اليوم، بعيدا عن استحضار ما قاله عنها "هوسمر" في بعدها الاجتماعي وإكسابها البعد التفاؤلي، قريبا نوعا ما من المعطى الذي توقف عنده فوكوياما في ارتباط بالتوقع والأعراف المشتركة، فقد أضحت بمثابة "الزئبق" الذي تصعد مستوياته أو تنخفض درجات حرارته في "محرار" العلاقة بين المواطن والفاعل الحكومي، وهنا نتحدث عن الثقة السياسية التي هي مكوّن أساسي من مكونات البحث في العلوم الاجتماعية، وذلك من أجل تحقيق السلم الاجتماعي والإقبال على المساهمة في كل ما يهم الحياة السياسية، التي هي مفتاح باقي المجالات والقطاعات الأخرى، فإن الحكومة ومن خلال خرجات عدد من مكوناتها تجعل دائرة الشك تتسع يوما عن يوم، بالنظر إما لتضارب التصريحات وتناقضها، أو لكمّ وحمولة التهافت والجشع "السياسي" التي تحتويها، أو لكونها تصريحات تملّصية من كل مسؤولية في علاقة بالنقاشات المجتمعية المفتوحة، خاصة منها التي تهم تدبير الشأن العام وكل ما يتعلق بيوميات المواطنات والمواطنين.
نحن اليوم أمام حكومة، تعتمد في جزء من خطابها على إرث الحكومة السابقة، وذلك برفع مسؤوليها أياديهم عاليا في إشارة منهم إلى أن المدّ أكبر منهم، وبالتالي فليست لهم صلاحيات لا دستورية ولا قانونية ولا مؤسساتية لوقف العبث بالمال العام، وقطع الطريق على المفسدين ومحاسبتهم، ويكتفي مدبرو الشأن الحكومي الحاليين، في أحسن الأحوال، بالتصريح بعدد "المرتزقة" وليس المضاربين، المستفيدين من الريع والذين بفضله يحكمون على المغاربة بالعيش في مزيد من التقشف، دون تحريك أي مسطرة، اقتصادية أو قضائية، في حق هؤلاء "المحظوظين" الذين يراكمون الثروات الهائلة على حساب مالية الدولة وجيوب المغاربة.
تصريحات صادمة، بتنا نستفيق على هولها بين الفينة والأخرى، مع حكومة رجال المال والأعمال، التي "عجزت" عن تحديد كل المتشبثين بمخالبهم بضرع الميزانية الذين يرفضون الابتعاد عنه وترتعد فرائصهم لفكرة "الفطام"، وبالتالي فهم يعضون بالنواجذ عليه في كل "المناسبات الاجتماعية والبيئية" لامتصاص أكبر قدر من "الزاد" الذي يرفع من قدرهم في قائمة "الملايرية"، ولعلّ من بينها التصريح الأخير لوزير العدل، هذا المسؤول الذي يؤهله منصبه الحكومي، وهو الأدرى حتى بلون جوارب غيره، ليكشف لكل المغاربة الجهات التي تحدث عنها والتي وصفها بكونها "عصابات تستهدف الديمقراطية"، لأن تصريحا من هذا القبيل الفضفاض لن يؤدي إلا لمزيد من الشك والتيه والتردد.
شك، يجده المواطن وهو ينظر ويستمع ويتابع تصريحات وبلاغات أحزاب تسيّر الحكومة، تخرج مكوناتها المتحالفة لتلقي باللائمة على هذه الحكومة التي تنتمي إليها، وكان الأمر يتعلق بـ "مبني للمجهول"، من أجل انتقاد الغلاء وارتفاع الأسعار، وتدني القدرة الشرائية، وارتفاع معدلات البطالة، وسقف الديون، والتضخم، وللتنديد بالمضاربين، والتشكّي من كل الأعطاب ذات البعدين الاقتصادي والاجتماعي، ويطالبونها ( الحكومة ) بحماية المواطن، الذي لم يعد قادرا على التمييز، بين من يحكم ومن يعارض، مما جعل الكثيرين يعتبرون أنفسهم يشاركون في إحدى حلقات "الكاميرا الخفية" الرديئة المفتقدة لكل إبداع، في تكريس بشع لمزيد من افتقاد الثقة المشجع على العزوف عن الفعل السياسي والمساهمة في الشأن الانتخابي، الأمر الذي كان موضوع انتقاد ملكي في وقت سابق، كما لو أن المعنيين بهذه الممارسات هم يحاولون الحفاظ فقط على خزّان خاص بهم للمحطات الانتخابية المقبلة الذي ترعاه مصالح خاصة، بعيدا عن عموم الناخبين المعنيين بالمساهمة في مسيرة بناء الوطن وتنميته.
إن ممارسات حكومية من هذا القبيل، تزيد في ضرب الثقة وتغييبها بين المواطن والفاعل السياسي، التي تعد عاملا أساسيا من أجل تشكيل الثقافة السياسة الديمقراطية كما تحدث عنها "نيكولاس لوهمان"، لا تحقق الاطمئنان للسلوك المتوقع من الغير، أكان شخصا أو مؤسسة، وتدفع بالمواطن إلى الارتياب في كل ما قد يصدر عن الفاعل الحكومي، ولعلّ أحد أبرز مظاهر هذا الشك، على سبيل المثال لا الحصر، هو عدم الوفاء بالكثير من الالتزامات والتعهدات التي وردت في البرامج الانتخابية لأحزاب التحالف، التي أضحت اليوم تعيش على إيقاع تسابق محموم، مختزلة زمن المغرب خلال السنوات المقبلة كله في لحظة "المونديال"!.