يراهن العسكر الجزائري على شبكة معقدة من العلاقات والتحالفات ليخفي طبيعة "دولة العصابة" التي تستثمر في الشروط الإقليمية والدولية من أجل النهب والاقتصاص والانتقام وتحقيق الهيمنة عن طريق القيام بالعديد من الأعمال القذرة، مثل الابتزاز الحدودي والإرشاء الدولي وخلق الكيانات المسلحة لتركيع دول الجوار، خاصة بعدما تحقق لها شرط السيطرة على المؤسسة العسكرية والأمنية.
ومن أوجه الإجرام الجزائري أنها «اخترعت» جماعة «البوليساريو»، واحتضنتها على أراضيها، وجهزتها بالآليات العسكرية، وأغدقت على زعمائها الأموال والامتيازات، ومكنتهم من صفة «لاجئين»، لا لشيء إلا لتحقيق التوسع الجغرافي على حساب المسار السياسي الممكن.
فعلى مدى خمسة عقود، تعيش مخيمات المحتجزين في تندوف، في حالة فراغ قانوني غير مسبوق في تاريخ مخيمات «اللاجئين»، حيث يعيش آلاف الأشخاص في ظروف غير إنسانية داخل خيام أو منازل مبنية من الطين، ويعتمدون بشكل أساسي على المساعدات الإنسانية الدولية لتلبية احتياجاتهم الأساسية، فيما تتولى المخابرات العسكرية الجزائرية تكليف «زعماء البوليساريو» بإدارة هذه المخيمات بدلًا من الدولة المضيفة، بعيدًا عن أعين المجتمع الدولي. وهذا ما سبق أن حملته مذكرة تلقاها الأمين العام للأمم المتحدة في فبراير 2023، من منظمة «تعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية» (PDES) «منظمة غير حكومية ذات صفة استشارية خاصة» حول «الوضع القانوني الغائب في مخيمات اللاجئين في تندوف ومسؤولية الدولة المضيفة الجزائر».
وجاء في المذكرة، التي نشرت في التقرير السنوي للمفوض السامي لحقوق الإنسان وتقارير المفوضية السامية والأمين العام، أن مخيمات اللاجئين في تندوف «جنوب غرب الجزائر» تعيش، لما يقرب من خمسة عقود، في حالة من الفوضى القانونية غير المسبوقة في تاريخ مخيمات اللاجئين، حيث يعيش آلاف من الصحراويين في ظروف غير إنسانية داخل خيام أو بيوت طينية مهينة، ويعتمدون بشكل أساسي على المساعدات الإنسانية الدولية لتوفير احتياجاتهم الأساسية». وأضافت أن «جبهة البوليساريو» تقوم بإدارة المخيمات بدلاً من الدولة المضيفة الجزائر، في انتهاك لقواعد القانون الدولي، وبعيدًا عن رقابة المجتمع الدولي.
واعتبرت المذكرة أن «تصنيف مخيمات تندوف كـ «مخيمات لاجئين» يعد أمرًا معقدًا ولم يتم حله حتى الآن. إذ لم يتم إجراء أي إحصاء رسمي لسكان المخيمات، على الرغم من أن المفوضية السامية لشؤون اللاجئين طلبت ذلك مرارًا وتكرارًا من الجزائر «الدولة المضيفة»، كما تبنت هذا الطلب مجلس الأمن والاتحاد الأوروبي.
وأشارت المذكرة إلى أن الجزائر التي تقدم السكان الصحراويين كمجموعة لاجئين على الصعيد الدولي، ما زالت ترفض الاعتراف بسكان المخيمات كلاجئين رسميين، مما يحرمهم من الحقوق المترتبة على هذا الوضع، وفقًا لاتفاقية اللاجئين لعام 1951 والبروتوكول الملحق بها، اللذين صادقت عليهما الجزائر.
كما أن المفوضية السامية لشؤون اللاجئين أو المنظمات الأخرى أكدت، في غير ما مناسبة، أنها غير قادرة على التواصل المباشر مع سكان المخيمات، حيث يوجد دائمًا ممثل عن «جبهة البوليساريو».
ولا تستطيع المفوضية أو المنظمات الإنسانية الأخرى حتى الإشراف الكامل والمباشر على توزيع المساعدات الإنسانية.
هذا الوضع يطرح أكثر من علامة استفهام حول ما يجري في مخيمات الاحتجاز، إذ تشير مجموعة من التقارير إلى أن هناك «محتجزين» بلا بطاقات هوية، كما يعاني سكان المخيمات من انعدام نظام أي حماية مدنية. ذلك أنهم يحتجزون في مخيمات ذات طابع عسكري، وهو ما يتعارض مع اتفاقية جنيف لعام 1951 التي تنص على ضرورة الحفاظ على الطابع المدني لمخيمات اللاجئين.
ليس هذا، فحسب، بل إن كل التقارير الدولية تشير إلى أن مخيمات تندوف تُدار بوضع استثنائي، حيث تعيش في حالة من غياب القانون. فالجزائر باعتبارها دولة «مضيفة» «الحقيقة أنها دولة مُنشئة»، مسؤولة بموجب القانون الدولي عن حماية حقوق جميع الأفراد على أراضيها، غير أنها فوضت إدارة المخيمات بالكامل لجماعة عسكرية مسلحة «البوليساريو» منذ إنشائها عام 1975. وهو ما يجعل المحتجزين تحت سيطرة النظام القبلي للبوليساريو التي تعتبر السلطة الوحيدة داخل المخيمات. ذلك القانون الذي يفرض العديد من القرارات المجحفة على السكان دون أية رقابة دولية ودون أي إطار قانوني واضح يتماشى مع الاتفاقيات الدولية، حيث أسست البوليساريو محاكمها وسجونها وقوات شرطتها، علما أن المادة 16 من اتفاقية جنيف الخاصة باللاجئين تنص على أن «لكل لاجئ الحق في اللجوء إلى المحاكم بنفس الحقوق التي يتمتع بها مواطنو الدولة»، وهو المبدأ الذي لا يُطبق، كما يتضح، داخل مخيمات تندوف، الأمر الذي فسح المجال لوقوع انتهاكات جسيمة، تبدأ من التعذيب بكل أنواعه وتنتهي بالاختفاء القسري والإعدام في الأقبية المظلمة لسجن الرشيد سيء الذكر، دون الحديث عن الاستعباد والاغتصاب والتجنيد الإجباري للأطفال ومضايقة المعارضين وملتحقتهم والانتقام من ذويهم ومنع سكان تندوف من التنقل.
فلماذا يسكت العسكر الجزائري عن هذه الانتهاكات الحقوقية الجسيمة؟ بل الأصح، لماذا يشكل عسكر الجزائر طوقا من التواطؤ حولها؟ ولماذا تقوم دولة العصابة بحماية إجرام الجماعة المسلحة خارج أي رقابة دولية حقيقية؟ ولماذا تظل مفاهيم مثل «حقوق الإنسان» أو «دولة الحق والقانون»، كلما تعلق الأمر بالبوليساريو، محض تجريدات تُستعمل سندا لتشجيع القمع وتعزيز التبعية السياسية والعسكرية لأجهزة شنقريحة؟ وما السر في مواصلة الجزائر تحدي كل القوانين الدولية والشرائع الأممية دون عقوبات سياسية واقتصادية؟
ففي عام 2018، أعربت الأمم المتحدة عن قلقها إزاء عدم التزام الجزائر بواجباتها في حماية الأفراد المتواجدين على أراضيها.
وفي عام 2000، أكدت لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة أن «أي دولة مسؤولة عن الأفعال غير القانونية التي تُرتكب على أراضيها، سواء قامت بها السلطات الرسمية أو كيانات غير حكومية تتصرف بتفويض من الدولة أو تحت حمايتها».
وفي عام 2018، اعتبرت اللجنة المعنية بحقوق الإنسان، خلال مراجعة تقرير الجزائر الدوري حول تنفيذ العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، أن نقل الجزائر لصلاحياتها القضائية إلى البوليساريو يعد غير قانوني.
وسبق للأمين العام للأمم المتحدة أن أعرب في تقريره لعام 2018 عن قلقه إزاء وضعية حقوق الإنسان بتندوف، مشيراً إلى أن الضحايا في المخيمات محرومون من أي وسيلة فعالة للجوء إلى المحاكم الجزائرية للحصول على الإنصاف.
وفي قرار صادر في 1 أبريل 2022 (CCPR/C/134/D/2721/2016)، أكدت اللجنة المعنية بحقوق الإنسان مسؤولية الجزائر عن انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبت داخل المخيمات، لا سيما في قضية الاختطاف والتعذيب الذي تعرض له أحد معارضي قيادة البوليساريو.
وسبق للفريق العامل المعني بحالات الاختفاء القسري أو غير الطوعي التابع للأمم المتحدة أن أصدر، خلال دورته الـ 87 (مايو 2020) قراراً يدين هذه الممارسات، معتبراً أن نقل الجزائر لسلطاتها إلى البوليساريو غير قانوني.
تشير كل الأدلة، إذن، إلى أن مسؤولية قصر المرادية بالجزائر، مسؤولية مباشرة عن انتهاكات حقوق سكان المخيمات المحتجزين في الأراضي الجزائرية. ومع ذلك يستمر حكام دولة العصابة في اللجوء، دون رادع، إلى الحيل القانونية للتملص من التزامات بلادهم الدولية، وذلك بادعاء أن الجزائر غير مسؤولة عما يجري، لأنها نقلت جميع صلاحياتها، بما في ذلك الأمنية والقضائية، إلى البوليساريو، في انتهاك صارخ لاتفاقية جنيف الخاصة باللاجئين «الواقع أنهم في حالتنا محتجزون».
تنصل الجزائر من المسؤولية أدى إلى تحويل مخيمات تندوف إلى كارتيل مختص في صناعة الإجرام والإرهاب والتهريب والاتجار في الأسلحة والبشر والمخدرات؛ وباختصار إلى محمية عسكرية خارج القانون، مما أدى إلى ترسيخ ثقافة الإفلات من العقاب، وأتاح ذلك لمجرمي البوليساريو ومليشياتهم المسلحة ارتكاب جرائم وانتهاكات جسيمة بحق أي صحراوي يجرؤ على التعبير عن رأي مخالف أو المطالبة بأي نوع من التحرر عن سيطرة هذه الجماعة المسلحة، كما أتاح لهؤلاء الإثراء السريع عن طريق المتاجرة في المساعدات الدولية، والتهريب والابتزاز. وهي جرائم لا يعاقب عليها القانون الذي تواطأ جينرالات الدولة المضيفة على تطبيقه في المخيمات.
لقد تم توجيه انتقادات متعددة ومتكررة إلى الجزائر من قبل الأمم المتحدة وهيئاتها المختصة بسبب تخليها غير القانوني عن سلطتها لصالح جماعة انفصالية مسلحة ثبت أنها متحالفة مع الإرهاب بالساخل الإفريقي. غير أن حكام الجزائر لا يأخذون تلك الانتقادات على محمل الجد، ولا يعيرونها أدنى اهتمام، بل يشجعون صنائعهم من قادة البوليساريو على إتيان كل الفواحش ما دامت مصدرا آمنا للأموال القذرة، وما دامت «الجماعة» تساهم في استدامة «الحصر السياسي» لقضية الصحراء التي جعل منها الجزائريون «قضية حياة أو موت» في طموحهم لتحقيق الزعامة الإقليمية والقارية.
إن هذا الإصرار الجزائري على حماية انتهاك حقوق الإنسان، والتهرب من مسؤوليتها القانونية والأخلاقية والسياسية، يقتضي عدم الاكتفاء بالملاحظة أو الانتقاد أو المطالبة أو المناشدة، بل الذهاب إلى أبعد من ذلك، أي إلى اتخاذ قرارات تجبر الجزائر على الالتزام بتوصيات الأمم المتحدة وإنهاء تفويضها غير القانوني للسلطة داخل مخيمات تندوف لعصابة البوليساريو، فضلا عن وضع حد للإفلات من العقاب التي يتمتع بها الجلادون بالمخيمات، وضمان حق المحتجزين في اللجوء إلى العدالة الجزائرية، وفرض التعامل بالقانون المطبق على الجزائريين، وإرغام الدولة الجزائرية على كشف مصير ضحايا الاختفاء القسري ومحاكمة المسؤولين عن جرائمهم، وإعادة رفات الضحايا إلى ذويهم لدفنهم بكرامة، وتحمل مسؤوليتها في جبر الأضرار المعنوية والمادية لأسر الضحايا وعائلاتهم، والسماح لسكان المخيمات بالترقي العلمي والاجتماعي والمهني، ليس بمنطق القبيلة أو الولاء، بل بمنطق تكافؤ الفرص.
تفاصيل أوفى تجدونها في العدد الجديد من أسبوعية "الوطن الآن"