في قلب الصحراء المغربية - حيث يسكب الكثيب أنفاسه على حضيض الأفقٍ اللامحدود - تنتصب سلسلتا جبال "باني" و"ورڭزيز" شاهقتين وكأنهما تحرسان بشموخ أسطوري مضارب قبيلة "آيت أوسى". وكمن نذرها القدر المسطور في ألواح البدء قربانا على مذبح التراث الحساني، ترعرعت "سالمة سكيح" بين أحضان هذه القبيلة الباسلة مرتحلة بالروح بين ترانيم الجدات، وأنين نايات الرعاة، ودقات طبول السُّراة. تتهجى بالغُدُوِّ ترانيم الأسلاف المنقوشة على الصخر منذ آلاف السنين، وترهف السمع بالآصال إلى نداءات الغيب المكنون. ولأنه مرقوم في نواميس الأزل أن مسقط الرأس هو ذاته مهبط الوحي، أبت مشيئة الغيب الصدوق إلا أن تكون الصحراء - موطن القداسة ومشتل النوبات - مهبط وحي الموسيقى على "سالمة سكيح".. فكان أن ولدت من روحها وعلى كثيب الرمل فنانة اختارت لنفسها اسم: "سالمة رمال".. في العوالم الموسيقية التي شيدتها لنفسها "سالمة رمال" غدا الرمل حبرًا للكتابة على صفحة الوجود، وصارت الكلمةُ نغمة، وتحول الإيقاعُ إلى خطو جسور نحو الجمال المطلق..
الموهبة بين محراب العلم ومنبر الأثير
ولأن الموهبة وحدها لا تكفي، أدركت "سالمة رمال" أن التحصيل الأكاديمي شرط رئيسي من شروط الإبداع.. فكان أن يممت وجهها شطر جامعة ابن زهر بأكادير حيث حصلت على إجازتها الأولى في الأدب العربي التي جعلتها ترتوي من ينابيع اللغة وبلاغتها، حيث تعلّمت من الشعر أن الإيقاع هو روح النص، ومن النثر أن المعنى هو قلب النغمة، وهو ما أضفى على أغانيها بعدًا شعريًا ينساب بين المقامات الموسيقية، لتتحرر الكلمات من قمقم اللفظ، فتصير تراتيلا روحانية تُضفي على ألحانها أبعادًا دلالية عميقة. أما إجازتها الثانية في الصحافة، فقد منحتها بصيرة الإعلامي القادر على استيعاب زخم المشهد الثقافي وتطويعه بذكاء لخلق حضور فني متفرد، يعبر عن هويتها ويخاطب جمهورها بصدق وجداني.
ومع التحاقها بالعمل الإذاعي، معدة ومنشطة لمجموعة من البرامج المتخصصة في الثقافة الحسانية، وجدت "سالمة رمال" نفسها أمام مجال خصب للتعمق في الموروث الموسيقي الحساني. حيث أتقنت فن الإصغاء إلى نبض التراث، وصقلته بأدوات حداثية، لتُعيد تقديمه للمتلقي بإيقاعات تحاكي روح العصر دون أن تفتقد أصالتها. عبر الميكروفون، لم تكن تنقل صوتها فحسب، بل كانت تبث شذرات من روحها، لتُحول الأثير إلى ساحة ذكرٍ موسيقية تجمع بين رسوخ الجذور وأفق التجديد. وبهذا التزاوج الفريد، صنعت "سالمة رمال" تجربة فنية هي أشبه بخارطة إيقاعية تمزج بين العلم والحس، وبين الإعلام والإنشاد.
نبض الروح في حضرة الإيقاع السماوي
المتأمل في البنية الإيقاعية في موسيقى "سالمة رمال" سيلاحظ أنها أشبه برحلة روحية تتقاطع فيها الأزمنة والثقافات كأنها زُخرف سماوي نُسجت خيوطه على مقام الروح. ففي كل أغنية من أغانيها تشعر بالإيقاع الموسيقي يخترق شغاف القلب في طقس سماعي يفيض بالوجد. أما ألحانها المنعقدة على السلم الموسيقي الخماسي، فتتوالى كنوبات ذكرٍ صوفي تبدأ بدندنة خافتة لتتسارع في مدارج إيقاعية متصاعدة وهي تتماوج بين إيقاعات الطوارق الأصيلة، والنقرات الزنجية النابضة، لتنسكب أخيرا في مقامات حسّانية تعبق بأريج الجذور.
كل رعشة للقيثارة، وكل نقرة على الطبل أشبه بوصلٍ مجازي بين الأرض والسماء، حيث تلتقي النقرات المتوازنة للسماع الأمازيغي مع التأوهات العميقة للبلوز الأفرو - أمريكي. وبانفتاحها على إيقاعات البلوز والروك، تخلق جسورًا تنقل المستمع من صحراء الصمت إلى منابع النشوة حتى ينغمس كليا في نبيذ الدهشة. قصارى القول إن أغاني "سالمة رمال" ليست مجرد ألحان وأنغام، بل هي حضرة موسيقية تدعو السامع إلى غمرٍ صوفي، حيث يُصبح الإيقاع نبضًا داخليًا يوقظ سكون الروح، ويحرر الذائقة من قيود الضجيج الأسود المعاصر.
أنغام الوحدة في مقام الالتزام
تتجلى الأنغام والألحان والكلمات، في أغاني "سالمة رمال"، وكأنها طاقة روحية تترجم قضايا الأرض إلى مقامات موسيقية تحمل معاني الالتزام. فأغانيها ليست مجرد لحن عابر، بل هي تجسيد فعلي لدور المثقف الذي وصفه "أنطونيو غرامشي" بالمثقف العضوي، حيث يتحول الفنان إلى ضمير الأمة، يتقاطع فيه نداء التراب مع مسؤولية الكلمة. في مشروعها الفني، يستعيد الفن دوره الحقيقي كحامل لقضية، حاملاً صدى مفهوم الالتزام كما صاغه كل من "ماركس" و"سارتر".
هكذا خلقت "سالمة رمال" موسيقى تتجاوز الترف، لتصبح خطابًا وطنيًا مضمرًا يرسخ الثوابت ويدافع عن الوحدة الترابية. ألحانها، المنسوجة بروح التراث ووعي الحداثة، لا تقتصر على السماع، بل تخاطب العقل والوجدان معًا، محيلةً السامع إلى تجربة روحية تنبض بالحس الوطني. إنها موسيقى تُبنى على فلسفة الانتماء، تُعمق الجذور وتفتح الأفق نحو وحدةٍ يتردد صداها في كل وتر، ليُصبح كل مقطعٍ فيها فعل حب للأرض، وكل نغمة مقاومة للصمت والنسيان. بهذا المزج الفريد، تصوغ "سالمة رمال" مقامًا موسيقيًا جديدًا، حيث يلتقي الإيقاع بالرسالة، والروح بالأرض.
هكذا خلقت "سالمة رمال" موسيقى تتجاوز الترف، لتصبح خطابًا وطنيًا مضمرًا يرسخ الثوابت ويدافع عن الوحدة الترابية. ألحانها، المنسوجة بروح التراث ووعي الحداثة، لا تقتصر على السماع، بل تخاطب العقل والوجدان معًا، محيلةً السامع إلى تجربة روحية تنبض بالحس الوطني. إنها موسيقى تُبنى على فلسفة الانتماء، تُعمق الجذور وتفتح الأفق نحو وحدةٍ يتردد صداها في كل وتر، ليُصبح كل مقطعٍ فيها فعل حب للأرض، وكل نغمة مقاومة للصمت والنسيان. بهذا المزج الفريد، تصوغ "سالمة رمال" مقامًا موسيقيًا جديدًا، حيث يلتقي الإيقاع بالرسالة، والروح بالأرض.