"لو خيّروا العرب بين دولتين دولة علمانية ودينية، لصوتوا للدولة الدينية، وذهبوا للعيش في الدولة العلمانية" علي الوردي.
استوقفني كثيرا تصريح وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية عما دار بينه وبين وزير الداخلية الفرنسي حول العلمانية واصفا من خلاله المغاربة بأنهم "علمانيون". وأضاف أن المغرب "يدعم حرية التدين"، وأنه "يمكن لأي شخص فعل ما يريده، إذ لا إكراه في الدين".
هذا المفهوم للعلمانية التي تحدث عنه الوزير المشرف على القطاع لا يفصل تماما بين الدين والدولة، بل بنى مفهومه لها، من خلال حرية التدين والاختيار والفردانية.
ونظرا لسوء فهم تصريحاته وحساسية الحديث عن العلمانية في المغرب تعرض الوزير لهجوم عنيف من طرف التيار الأصولي. فما هي العلمانية؟ وهل العلمانية بالفعل ضد الدين؟ وهل حقا أن المغرب بلد علماني؟
فيما يتعلق بتعريف العلمانية، فإنه لا يوجد تعريف واحد محدد متفق عليه، لكن تعريفات "العلمانية" المختلفة تتمحور حول فكرة أساسية، وهي "الفصل بين مؤسسات الدولة والسلطة الدينية". والعلمانية، من خلال هذا التعريف، تختلف اختلافا واضحا مع مفهوم الأحزاب المحافظة، التي تستند في مرجعياتها إلى الدين.
ومن المعروف أن العلمانية المفترى عليها عربيا ليست ضد الدين. فكل دولة تأخذ روح العلمانية حسب تاريخها وثقافتها. فالعلمانية الفرنسية تتخذ موقفا متشددا من الدين بشكل عام، بخلاف العلمانية البريطانية والألمانية والأمريكية، وبالأخص هذه الأخيرة التي تتخذ نهجا أكثر تصالحا تجاه الكنيسة خاصة والأديان عامة. وهذا لا يعني بالضرورة أن الكنيسة في أمريكا ممنوعة من تطوير مقاربات اجتماعية أو سياسية، بل هي في صلب صناعة السياسات والتشريعات ضمن القوانين المحلية، وحاضرة أيضا في انتخابات الكونغرس والرئاسة.
إلى جانب علمانيات الغرب، هناك أيضا دول ذات أغلبية مسلمة تبنت صراحة العلمانية في دساتيرها منها: تركيا، إندونيسيا، البانيا، السنغال، أذربيجان، بنغلاديش وغيرهم.
خلافا للدول السابقة، لا توجد دولة عربية أقرت دستوريا العلمانية، إذ أغلب الدساتير العربية تضمنت جملة أن "الإسلام هو دين الدولة" وهي عبارة تبقى مشتركة بين كل الدساتير العربية، ومنها من أضاف "الشريعة مصدر من مصادر التشريع" و" إمارة المؤمنين". ومن أسباب تجنب ذكر العلمانية في الدساتير العربية هو سوء سمعة العلمانية لدى أغلب المجتمعات العربية، إذ أنه مجرد أن تذكر "العلمانية"، يبرز إلى ذهن البعض " فصل الدين عن الدولة"، وما أن يذكر "فصل الدين عن الدولة"، يظن البعض أن المفهوم إحالة مباشرة على الإلحاد ومعاداة الدين والدهرية ونكران الغيبيات.
في حين أن العلمانية لا تعادي الأديان كما يدعي البعض أو أن الدولة تصبح بلا دين أو ملحدة، وإنما فقط تمنع فرض المعتقدات من قبل شخص أو جماعة أو حتى الأغلبية على الباقيين بدعوى امتلاك الحقيقة المطلقة.
بالنسبة للمغرب، برغم أن الدستور ينص على أن الإسلام دين الدولة، فالمجتمع المغربي يعد واحدا من باقي المجتمعات العلمانية العربية، فمنظومة القوانين المغربية، ما عدا "مدونة الأسرة" هي قوانين مستمدة من القانون الوضعي وليس من الشريعة الإسلامية. كما أن مظاهر العلمانية منتشرة في المدن منها أساسا المساواة بين الجنسين والحريات الفردية والملاهي والحانات والمراقص…. الخ.
قبل الختم، يتعين التأكيد أن العلمانية ليست معادية للدين، وإنما تعني الوقوف على مسافة واحدة من جميع الأديان واحترامها، فالملاحظ مثلا أن الدول العلمانية في الغرب والشرق تسمح ببناء مساجد للمسلمين مع أنهم أقلية عندها. ولو لم تكن هذه الدول علمانية لما سمحت ببناء هذه المساجد ولمنعت المسلمين من أداء شعائرهم. والترشح للانتخابات. فالعلمانية ليست ضد أي دين، وإنما تعني أساسا التقيد بقوانين الدولة والالتزام بالمواطنة والتشبث بالعدل بين المواطنين أيا كانت ديانتهم. وهذا حلم مازال بعيد المنال عندنا.
وأخيرا، لقد صدق عالم الاجتماع العراقي الراحل علي الوردي (1913-1995) عندما قال: "لو خيروا العرب بين دولتين علمانية ودينية، لصوتوا للدينية وذهبوا للعيش في الدولة العلمانية". فهم يريدون ثمار العلمانية من مساواة وحربات وفرص وعدم تمييز في البلاد التي يعيشون فيها، وفي نفس الوقت يريدون فرض معتقداتهم الدينية على الآخرين في بلادهم!