المائدة هي مفرد “موائد” ويقصد بها إما ما يوضع عليه الطعام، وإما الطعام نفسه، كما في الآية الكريمة من سورة المائدة: (إِذۡ قَالَ ٱلۡحَوَارِيُّونَ يا عيسى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ هَلۡ يَسۡتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيۡنَا مَآئِدَةٗ مِّنَ ٱلسَّمَآءِۖ قَالَ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأۡكُلَ مِنۡهَا وَتَطۡمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعۡلَمَ أَن قَدۡ صَدَقۡتَنَا وَنَكُونَ عَلَيۡهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ).
كما أن الطعام أو المائدة أو النعمة يتعامل معها المغاربة بنوع من التقديس، إذ يُعبرون عن الأكل حولها بعبارة “شركنا الطعام”، وهو فعل مقدس كالعهد الذي لا يجب نقضه، ومن فعل ذلك “يوقف ليه في الركابي” أي تُشل حركته.
يقول الأنثروبولوجي الفرنسي كلود ليفي شتراوس: “إن التعامل مع الطعام لا يكون معزولًا عن النسق الثقافي الذي ينتمي إليه الفاعل الغذائي، فكل طعام وكل تدبير ممكن لهذا الطعام يتأسس على صيرورة ثقافية.”
أما “المستديرة” فهي شكل هندسي دائري، من أقدم الرموز الهندسية وأكثرها شيوعًا. فالدائرة تمثل الاتحاد والتكامل واللانهاية، إذ لا نقطة بداية ولا نهاية لها، ولا أضلاع ولا زوايا، ما يجعل الالتفاف حولها شعورًا بالاعتزاز بالذات، الذي يحرص عليه الجميع. سواء كانت هذه المائدة المستديرة “ميدونة” كما هو الحال عند أهل البادية قديمًا، أو طيفور ذو الأرجل الثلاث لتناول الطعام، أو كانت هذه المائدة المستديرة لحظة للاجتماعات والتداول في قضايا مختلفة الأهمية.
لعل هذا البعد الأنثروبولوجي والتاريخي للمائدة المستديرة كبنية ثقافية يشكل زاوية أخرى من المفروض أن يُقرأ ويُحلل من خلالها القرار الأخير لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة حول الصحراء المغربية، والقاضي بتجديد ولاية المينورسو لمدة سنة، مع دعوة الأطراف الأربعة، وخاصة الجزائر والمغرب، لاستئناف العملية السياسية بإعادة إطلاق المفاوضات عبر الموائد المستديرة. وهي عملية سياسية مبتكرة لحل النزاعات، دعا إليها الرئيس الألماني السابق هورست كوهلر، المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة بالصحراء المغربية، بعدما تبين أن كل المبادرات السابقة لم تحرز أي تقدم في الملف، وخاصة في جميع جولات “منهاست” قرب نيويورك، حيث كانت الأولى يومي 18 و19 يونيو 2007 تحت إشراف مبعوث الأمم المتحدة، السيد بيترفان ولسوم، والثانية 10 و11 غشت 2007، والثالثة في يناير 2008، والرابعة في 15 مارس 2008، ولم تفضِ أي منها إلى نتيجة.
وبعد ذلك، أشرف هورست كوهلر على المائدة المستديرة الأولى في دجنبر 2018، والثانية في 2019، بقصر الأمم بجنيف، وبحضور الأطراف الأربعة انطلاقًا من القرار 2440 لمجلس الأمن، الذي يؤكد في فقرته الثانية أن الهدف من هذه الطاولة المستديرة هو التوصل إلى حل واقعي وعملي وقائم على التوافق.
ولعل دعوة المجتمع الدولي عبر مجلس الأمن في قراره الأخير رقم 2756 مرة أخرى للأطراف الأربعة للعودة إلى المائدة المستديرة، هو فعل دبلوماسي رفيع، لكونه يجمع الأطراف المعنية مباشرة ويمنحهم الفرصة للحديث ككبار بدون وصاية أو حجر، حول طاولة لا رئيس ولا مرؤوس فيها. ومن المفروض أن يجتمعوا كإخوة تربطهم روابط الدين واللغة والجغرافيا والتاريخ، هذا التاريخ الذي يسجل ما قدمه الشعب المغربي لأشقائه في الجزائر من دعم سياسي وعسكري، عندما اقتسم الشعبان الطعام في أيام المحن وعندما كانت المائدة مشتركة ومستديرة. حيث تناولا هنا الطاجين المغربي والبسطيلة والكسكس والملاوي والرغايف والحرشة كما التهما هناك كل الأكلات الجزائرية اللذيذة، حتى تلك التي لها أسماء غريبة مثل “القاضي وجماعته” و”سكران وطايح في دروج”، مرورًا بـ”مومو في حجر مو”، (وطاجين دار عمي”، وكذلك أكلة “رزمة العجوزة” أو “رزيمات العروسة”.
لكن مع الأسف، اختار النظام الجزائري مرة أخرى الاستمرار في الرقص في حفلة تنكرية، ليبقى السؤال مطروحًا على مجلس الأمن: إلى متى؟
إلى ذلك الحين، ليس لنا إلا أن نردد مع الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش:
“سقط القناع.. عن القناع.. عن القناع..
سقط القناع..
لا إخوة لك يا أخي، لا أصدقاء!
يا صديقي، لا قلاع!