احتلّ العقل منزلة رفيعة لدى زعماء حركة الإصلاح فقد عدّوه مناط التكليف، وحجة الله على عباده، ورأوا فيه ضرورة للدين وضرورة الدين له، وذهب الكواكبي ومحمد عبده إلى تفضيل العقل على النقل في حال تعارضهما.
وقد رأى مفكّرو النهضة بأن الإسلام يناصر العلم ولا يتعارض معه، بل لقد أُلّفت الكتب في الرد على من يتّهم الإسلام بأنه ضد العقل، وعلى صعيد التربية فقد شغل المصلحون أنفسهم بها وعدوّها أساس كل تطوير، ورأوا أن تصحيح الفكر والإعتقاد هو بداية الإصلاح العام.
وقد ارتبط لديهم العلم بالعمل، ردّاً على التواكل والعطالة، فلا علم من دون العمل به، ولا عمل من دون علم يرشده ويعصمه؛ لهذا كان للفيلسوف المسلم ابن رشد تأثير كبير على المدارس الفكرية المتنوعة في أوروبا، ثم أمريكا اللاتينية، وخصوصا فيما يتعلق بمفهوم العقل،فقد ظهرت حركات فكرية تمحور فعلها الفلسفي حول موقف ابن رشد من العقل، ونمت (الحركة الرشدية اللاتينية) في اتجاهات كثيرة، وكانت فكرتها المحورية والجوهرية هي تحرير العقل الإنسانى من ظلمة العصور الوسطى التى كانت تدور حول تحكم الكنيسة بغسم الحق الإلهي فيما هو إنسانى معاشي أرضي..
وكانت للحركة الرشدية من القوة بحيث أحدثت تأثيراً على نشأة الإصلاح الدينى والنهضة وعلى التنوير وعلى العقلانية العلمية منذ القرن السادس عشر حتى ال 20. حيث ظهر داروين و بلانك وفرويد: الأول فى علم الأحياء والثانى فى علم الفيزياء والثالث فى التحليل النفسي. ولكن ولما فهم علماء “اللاهوت” جيدًا أن ابن رشد نجح في إبراز وإعلاء مكانة العقل على النقل (النص الديني) وجهت تهمة التعاطي للرشدية اللاتينية آنئذ -باعتبارها جريمة تستحق العقاب- هنا بدأ الصراع في أوروبا بين الفلاسفة الذين انتصروا للرشدية اللاتينية وبين القساوسة ورجال الدين المسيحيين الذين عارضوا بشدة رؤى ومفاهيم ابن رشد في الأوساط الثقافية الأوروبية، بوصفه فيلسوف الفكر والعقل الذي يواجه المفاهيم اللاهوتية للكنيسة،ويضع حدًا لسيطرتها السياسية والإجتماعية والفكرية على أوروبا ..فابن رشد مفكر مسلم عظيم، بفضله اهتدت الحضارة الأوروبية إلى تراثها، وأعادت إحياءه عن طريق مؤلفاته وكتبه وترجماته للتراث اليوناني، وحظي باهتمام كبير ومكانة خاصة عندهم، بل دخل في سياق عصر النهضة الأوروبي، وامتنت الحضارة الأوروبية حتى أنه قد ظهر في اللوحة الشهيرة المعروفة بإسم “مدرسة أثينا” -للرسام الإيطالي المشهور “رافائييل”- إجلالا له، وتقديرًا لما بذله من جهد، كما ورد اسمه في كوميديا دانتي الإلهيَّة مع باقي الفلاسفة العظام. وفي هذا السياق أعادت مجموعة لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية والتي تأثرت بالحركة الرشدية اللاتينية في أوروبا فبدأت بقراءة الإنجيل قراءة عقلانية، ونادوا بأن تكون مهمة رجل الدين في مجتمعه كمهمة النبي موسى الذي استطاع أن ينجي قومه من بطش وظلم فرعون، والمسيح حينما وقف أمام ظلم الرومان، بغية تحرير الإنسان-أيًا يكن لون هذا الإنسان ودينه وعِرقه- المحور الذي يجب أن تدور حوله الخدمة الكنسية الحقة..كما استلهم تيار لاهوت التحرير في هدفهم النهائي وأجندة تحركهم مقولة المسيح: «روح الرب عليَّ، لأنه مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأشفي منكسري القلوب، لأنادي للمأسورين بالإطلاق، وللعُمي بالبصر، وأُرسل المنسحقين إلى الحرية».وبهذا الشكل وإلى يوم الناس هذا وُجد في الفضاء الإجتماعي والديني اللاتيني خطابان دينيان متناقضان؛ خطاب ديني تقليدي يدعم السلطة الدينية وتوجهاتها الميتافيزيقية والخرافية، وخطاب آخر عقلي يساري مسيحي يقدم قراءة جديدة للمسيحية ويحاول من خلالها رفع المعاناة عن المواطن المأزوم اقتصاديًا واجتماعيَّا، المغيب تماما عن واقعه بسبب الخطاب المسيحي التقليدي المثالي والخرافي.
وختاما، فالحركة الرشدية اللاتينية ساهمت بطريقة أو بأخرى في نهضة أوروبا وبعض الدول في أمريكا اللاتينية، فهل يمكنها أن تساهم اليوم في نهضة بعض دولنا العربية والإسلامية التي كان أحد فلاسفتها منشئها ومبدعها ورائدها؟!. أم ستظل الحركات الأيديولوجية الخرافية تقود شباب الأمة المسلمة إلى التهلكة والخراب والدمار والموت ؟ مع أن التاريخ ينبئنا ويقول لنا بأعلى صوته: لانهضة ولا حضارة ولا تقدم ولا نمو ولا ازدهار بدون عقل..
الصادق العثماني - البرازيل