قال الكاتب التونسي الحبيب الأسود، أن شخصية ولي الأمر تتشكل في المدرسة الملكية العلوية، ويتأسس فيها كيان ولي العهد منذ نعومة أظافره إلى أن تتجسد فيه روح الريادة ويكتمل لديه بنيان القيادة..
جاء ذلك في مقال مطول منشور في جريدة "العرب"، وهو يسترجع وصية الملك الراحل محمد الخامس للملك الراحل الحسن الثاني..
جاء ذلك في مقال مطول منشور في جريدة "العرب"، وهو يسترجع وصية الملك الراحل محمد الخامس للملك الراحل الحسن الثاني..
قبل 67 عاما، وتحديدا في التاسع من يوليو 1957 ألقى الملك محمد الخامس خطابا بمناسبة تنصيب ابنه الأمير مولاي الحسن وليا لعهد المملكة المغربية، تضمن وصية خالدة يمكن اعتبارها درسا بليغا في الحكم وإدارة الشأن العام وتوطيد العلاقة مع الشعب وخدمة الوطن وتأمين سلامته وتحصين حدوده ومقدراته، وفي تكريس القيم والثوابت المبدئية التي آمنت بها السلالة الملكية العلوية، وجعلت منها نبراسا للأجيال، ورباطا مقدسا بين الراعي والرعية، ومنطلقا أساسيا لعلاء شأنها ودوام سلطانها واتساع عمرانها.
ومما جاء في وصية الملك لابنه ولي العهد: “أوصيك بالمغرب بلدك الكريم، ووطنك العظيم، مستقر الجد والوالد، ومستودع الطارق والتالد، خميلتك التي ارتاضت بنسائمها رئتاك، وتملت من محاسنها مقلتاك، وتغنت بألحانها شفتاك، فحافظ على استقلاله، ودافع عن وحدته الجغرافية والتاريخية، ولا تتساهل في شيء من حريته، ولا تتنازل عن قلامة ظفر من تربته. وإياك أن تقبل المساومة على أمنه وسلامة سكانه. وإذا داهمته الأخطار، أو تهددته الأعداء، فكن أول المدافعين، وسر في طليعة المناضلين”.
وكما هو معلوم، فإن الأمير الحسن الثاني كان قد رافق مع بقية أفراد الأسرة الملك الوالد عندما خلعه المستعمر الفرنسي من عرشه في العام 1953 ونفاه إلى كورسيكا ثم إلى مدغشقر، فكان الصلة التي تصله مع المغاربة في الداخل ومع العالم الخارجي، وخاصة من خلال تدوين المراسلات وترجمة الرسائل الواردة إلى والده أو الصادرة عنه. فخاطب الملك الوالد ابنه بعبارات الثقة في قدراته والاعتراف بجدارته بولاية العهد: “كما أريتني يوم تعرضت معي للبلاء، فبدوت بطلا كامل الرجولة، شهما تام المروءة، واخترت معي من أجل هذه البلاد شظف حياة الشرف على رغد عيشة الاستخذاء، وارجع بين الفينة والأخرى إلى التاريخ يحدثك عن همم أجدادك، وعزائم أسلافك، وكيف أخلصوا النية لله في هذا الوطن وحياطته من الأهوال والأخطار، فجندوا الجنود، وأعدوا العدد لاسترجاع مراسيه وتحصين ثغوره، ودرء الطامعين وصد المغيرين، فكن يا ولدي خير خلف لخير سلف، وليكن عملك لوطنك ومحافظتك على استقلاله ووحدته أمرا يقتضيه منك شرف المسؤولية وتفرضه عليك تقاليد الأسرة في آن واحد”.
وبالعودة إلى تلك الوصية، تتكشف لنا فلسفة الحكم عند الملك محمد السادس كما ورثها عن سلفه الملهم وتركها في خلفه الصالح، وستبقى منهج البررة السائدين والقادمين من الأسرة العلوية التي تميزت إلى جانب عراقتها وجدارتها بتاريخ سلطتها الضارب في تاريخ المغرب والمنطقة، بمتانة روابطها الاجتماعية والثقافية والعاطفية والروحية مع شعبها، وبسلاسة تلك الروابط وحيوية فروعها العالية بصلابة جذورها العميقة.
وقد خاطب محمد الخامس ابنه الحسن، بالقول: “كن يا بني ديمقراطي الطبع شعبي الميول والنزعات فأنت تعرف أن أسلافك الأكرمين ما وصلوا إلى الملك قهرا، ولا اقتعدوا العرش قسرا، وإنما كان تقدمهم إلى السلطان ضرورة دعت إليها مصلحة الوطن العليا آوى منهم الشعب إلى ركن ركين، ولاذ بحصن حصين، واجتمعت عليهم كلمته بعد ما وزعتها الأهواء. وشتَّتَتْه الفتن، فخمدوا الذمار، ونفوا العار، واجتهدوا في رتق الفتوق، ورأب الصدوع، وحماية البلاد من المطامع، ووقايتها مما يتهددها من أخطار، متعاونين مع أمتهم، مقتسمين وإياها الحلو والمر، والسراء والضراء، فاحرص يا ولدي على تتميم رسالة أسلافك، والمحافظة على الأمانة التي من أجلها دعوا إلى الملك، وتبوأوا أريكة السلطان، وكن من الشعب وإلى الشعب، يسعك ما يسعه، ويضيق عنك ما يضيق عنه، ولا تبخل عليه براحة، ولا تضن عليه بمجهود. وآثره على قرابتك الوشيجة، وبطانتك المقربة، فإنه أسرتك الكبرى، وعشيرتك العظمى. وتذكر جدك الحسن الأول كان عرشه على ظهر فرسه، لكثرة تنقله في البلاد، ومشيه في مناكبها، متفقدا للرعية، سامعا للشكاة، مستأصلا لجراثيم البغي والفساد”.
وكما هو بادٍ للعيان، فإن الوصية تحمل من روح الحكمة ما لا يصدر إلا عن فكر زعيم تشرب من مناهل الانتماء الأصيل خلاصة الإدراك والمعرفة لمعنى القيادة وقيمة الريادة وطبيعة المسؤولية التي توارثها العلويون أبا عن الجد: “فكن للناس بمثابة الأب الرؤوف، والأم الرؤوم، ترحم الكبير، وتحنو على الصغير، وتقضي الحاجات، وتعين على النائبات، وتدخل الفرح بالرعاية والعناية على القلوب. واعلم يا بني أن الحكم خطة يبتلي بها الله من يشاء من عباده، فواحد قدّرها ورعى بها الحقوق وصان الحرمات، فرجحت بها كفته، وكان من المفلحين، وآخر بطر بها وأشر، وطغى واستكبر، فخف بها ميزانه، وكان من الأخسرين أعمالا، الذين فشل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، فكن من الذين رجحت كفتهم، ولا تكن من الذين خفت موازينهم، ولن يتأتى لك ذلك إلى إذا أخذت من أمرك بالحزم، واستعنت على الرأي بالعزم، وعملت عمل اليوم في يومه ولم تؤخره إلى غد، وعظم من عظم في عينك بالحق، وصغر من صغر بالباطل، وبدأت بالأوكد قبل الأكيد، وقدمت الأوجب على الواجب، فإنه لا تقبل النوافل حتى تؤدى الفرائض، وبدأت بنفسك قبل أن تتجه بالنصح إلى غيرك، وكنت مخلصا في سرك وعلانيتك، عادلا في رضاك وغضبك مقتصدا في يسرك وعسرك، مسويا بين الرعية في الحقوق والواجبات، فإنك منهم بمنزلة الأب وهم بمنزلة الأبناء. واحذر من المزالق قبل وضع القدم، فإن زلة الملوك لا تقال”.
وفي ذات اليوم من العام السابق، أي في التاسع من يوليو 1956، خاطب محمد الخامس ابنه الحسن بمناسبة بلوغه السابعة والعشرين برسالة، كشف فيها عن رؤيته لتربية الابن وتهيئته لمسؤولية الحكم، فقال: “لقد اخترت لك من الأسماء الحسن لأربط بين حاضر البلاد وماضيها، فلم تكد تطل على السادسة من عمرك حتى قدمتك للمعلم ليلقنك آيات القرآن، وليغرس في قلبك الطاهر الفتي حب الدين وعز العروبة والإسلام، ولما ترعرعت يا بني اخترت بقاءك تحت سماء المغرب ليتم تكوينك الثقافي في بيئة مغربية، فبنيت لك مدرسة خارج القصر ليتربى فيك الاعتماد على النفس، فحرمتك من مجاملة الخادمات، وحنان المربيات، حتى تزدهر شخصيتك، وتصبح عصاميا بارزا، قبل أن تكون أميرا، ثم أحطتك برفاق من مختلف طبقات الشعب لأنني كنت أريد أن أعدك إعدادا منتزعا من بيئة بلادك، فكنت أحرص أن يعاملك رفقاؤك كباقي إخوانك التلاميذ، تقارعهم الحجة بالحجة، فلا يخضعون لك إلا بقدر ما تبديه من تفوق ومعرفة، وهذا ما كنت أرجوه من المدرسة المولوية، انعزال عن القصر، واعتماد على النفس، وخوض معترك الحياة، لقد سهرت يا بني على بناء المدرسة وبرامج التعليم، وكنت المفتش فيها والمراقب، وكنت أفاجئكم في الدروس وأحيانا بالليل، كما كنت أراقب دفاتر واجباتك، فأجازيك إذا تفوقت، وأعاقبك إذا أقصرت.. لقد كنت صارما مع الأساتذة، وكنت ألح عليهم أن يعودوك الطاعة والامتثال، وكان غرضي أن تتعلم الطاعة لتعرف في يوم من الأيام كيف تملي أوامرك، لأن من تعلم الطاعة جيدا أملاها جيدا”.
وتضيف الرسالة: “يا بني: لقد حرصت أن أجمع لك بين أطراف المجد وأن أمكنك من فضيلة القديم والحديث، فأبيت إلا أن يكون تعليمك مزدوجا، لتعود قادرا على معرفة مـا يجري حولك في العالم، وتصبح رجل القرن العشرين.. يا بني احرص على التناسق في ثقافتك لأني أعلم أن مشكلة العصر هي التشبث بالقديم وحده أو الافتتان بالجديد وحده، وكنت أجعل من مدرستك مخبرا لخلق هذا التناسق بين القديم والجديد.. يا بني إن والدك يؤمن بأن قيادة الأمم وتسيير الدول فن قائم بذاته، فلا يكفي فيه التعليم والتربية وحدهما بل لا بد من تكوين عملي يومي مباشر.. يا بني لم تكن غاية والدك إلا إعدادك الإعداد الصحيح، وقد شاءت عناية الله، يا ولدي أن تنجح في جميع مراحل حياتك.. يا بني إن مهمتك خطيرة فيجب عليك أن تزداد من العلم والمعرفة، يجب أن تدرس الأفراد أن تعرف الشخصيات”.
هكذا هي المدرسة الملكية العلوية الشريفة، وهكذا تتشكل فيها شخصية ولي الأمر، ويتأسس فيها كيان ولي العهد منذ نعومة أظافره إلى أن تتجسد فيه روح الريادة ويكتمل لديه بنيان القيادة، ويجد فيها نفسه مؤهلا للدور العظيم الذي سيؤديه راعيا للأمانة، حافظا للعهد، سائرا على خطى الآباء والأجداد، بما فيه خير البلاد والعباد.