" نلتقي مساءً في المقهى."
عبارة عادية في المغرب، تُقال ببساطة… وتُفهم ببساطة أكبر.
لكن متى هذا «المساء»؟
لا أحد يسأل،
ولا أحد يستعجل الجواب.
في هذا البلد، لا يُقاس الوقت بعقارب الساعة،
بل بالمزاج، بالضحكة، وبرغبة اللقاء.
فالتأخير هنا لا يُفهم على أنه قلة احترام،
بل على أنه ثقة هادئة في أن القلب سيصل قبل الجسد.
في المغرب، الزمن ليس عدوًا يطاردك،
بل صديق يسير إلى جوارك ويهمس:
" تمهّل… ما زال في اليوم متّسع".
تلمس ذلك في تفاصيل صغيرة لا ينتبه إليها العابرون.
رجل يخرج إلى عمله،
فيتوقف ليلقي التحية على جارٍ لم يره منذ أيام.
يتبادلان أخبار العائلة،
يتحدثان عن الطقس وعن الغلاء،
ثم يواصل طريقه دون شعور بالذنب،
وكأن هذا الحديث كان جزءًا طبيعيًا من يومه المهني.
تراه أيضًا في المشي.
" لا زربة على صلاح" ،
حكمة شعبية تختصر فلسفة كاملة.
الناس يتمشّون على مهل،
كأن الطريق نفسه غاية،
لا مجرد وسيلة للوصول.
في الشارع،
قد يتوقف شاب ليُصلح حذاء طفل لا يعرفه،
تبتسم الأم وتشكره،
ولا أحد ينفخ ضجرًا،
ولا أحد ينظر إلى ساعته محتجًا.
فالدقيقة هنا لا تُسرق،
بل تُمنح.
في الأسواق،
يفتح البائع دكانه حين يشعر أنه مستعد.
وقد يؤخّر الإغلاق
لأن الزبون طيّب،
أو لأن الحديث طال،
أو لأن الحياة لا تُختصر في ساعات عمل مكتوبة على ورقة.
كم من زبون دخل يسأل عن ثمن سلعة،
فخرج وهو يحمل، إضافة إلى مشترياته،
اسم البائع، وقصته،
ورأيه في أحوال البلاد.
أما المقاهي،
فهي مدرسة الزمن المغربي بامتياز.
تجلس لساعات،
لا أحد يلمّح لك بالرحيل،
ولا نادل يمرّ متأففًا.
بل يتحول النادل، في كثير من الأحيان، إلى صديق،
يشاركك حديثًا عابرًا،
ويضيف لك قليلًا من القهوة
ليعيد الدفء إلى الكأس… وإلى اللحظة.
فالوقت هنا لا يُحسب بما أنفقت،
بل بما استمتعت.
وإن تأخّر صديق،
فلا بأس.
تصل ابتسامته مسبوقة بكلمة
" سمح ليا" ،
فتذوب كل دقائق الانتظار.
بل قد تكتشف أن الانتظار نفسه كان هدية:
لحظة تأملت فيها السماء،
أو التقطت فيها صوتًا بعيدًا،
أو ضحكة من طاولة مجاورة.
في المغرب،
الزمن ليس عجلة،
بل نَفَس.
ليس صافرة بداية ونهاية،
بل موسيقى هادئة
تعزفها الحياة على مهل.
فلا عجب أن نحبّ التأخير…
لأنه ليس تأخيرًا عن الحياة،
بل تأخيرٌ داخلها.
