ألقى أحمد الفرحان أستاذ الفلسفة بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة ابن طفيل، وعضو المكتب السياسي للحزب الاشتراكي الموحد، باليوم الدراسي 13 يونيو 2024 بمناسبة مرور ثلاثمائة سنة على ميلاد كانط، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة الحسن الثاني بن مسيك بالدار البيضاء، مداخلة بعنوان: القانون والسياسة في فكر كانط: مداخل للتفكير في الواقع السياسي المغربي الراهن. وتطرقت المداخلة كما نشرتها مواقع التواصل الاجتماعي إلى ضرورة إعادة التفكير في السياق السياسي الدولي والعربي والمغربي الراهن باستثمار مداخل نظرية وعملية جديدة، وخصوصا أنه تبين أن الديمقراطية على المستوى الدولي لا تشكل بالضرورة صمّام أمان ضد جنوح الدولة وانتهاك القانون الدولي (أمريكا وإسرائيل)، وعلى المستوى العربي أدّى تعثر انتقال الدول العربية إلى الديمقراطية وفشلها في ذلك إلى التفكك الداخلي وفقدان السيادة، أو إعادة إنتاج السلطوية الممسوخة، أما على المستوى المغربي فقد أشار إلى أن نضالات الكتلة الديمقراطية التقدمية في تحقيق "تعاقد اجتماعي" مع السلطة المركزية للانتقال الديمقراطي عبر إصلاحات سياسية متوالية كان محكوما بتصور نظري سياسي يخلط بين: مفهوم الدولة الديمقراطية ودولة الحق والقانون، وعليه كان التركيز كليا يتم حول الجمع بين مفاهيم: الشرعية وتوزيع السلطة والحقوق. ويرى الأستاذ أحمد الفرحان الذي يجمع بين الفكر والممارسة أن الخلط بين هذه المفاهيم يعود إلى تأثير الفكر السياسي الفرنسي في المرجعية الفكرية للنخب السياسية بالمغرب، حيث جرى الاعتقاد بأن شكل الدولة يتحدد ب"التعاقد الاجتماعي" والذي يعود بنا إلى كتاب جون جاك روسو في بناء مفهوم الدولة الديمقراطية الحديثة: "في التعاقد الاجتماعي"، وفي أحسن الأحوال يمر عبره إلى مفهوم "الحكومة المدنية" لجون لوك ومفهوم "لوفياتان" لتوماس هوبز، ولكن لم يتم الانتباه إلى اجتهادات الفكر الألماني فيما يتعلق بعلاقة القانون والسياسة مع كانط، والذي سيكون له رأي آخر في مسألة "التعاقد الاجتماعي".
ومنه، كشفت المداخلة عن صعوبة الإمساك بكتاب متماسك ومنسجم لكانط يتعلق بالسياسة كما هو الأمر مع باقي كتبه في مجالات معرفية محتلفة: كالمعرفة والأخلاق والحق والدين والتاريخ والجماليات، والانثربولوجيا، والمنطق. وهذا ما أشار إليه دراسات معاصرة مثل: كتاب هانز رايس حول "الكتابات السياسية عند كانط"، وكتاب حنا أرنت عن "الحكم، في الفلسفة السياسية لكانط". كما توقف على الإسهام المتفرد لعبد الرحمن بدوي في هذا المجال من خلال كتابه: كانط: فلسفة القانون والسياسة" ودعا إلى إعادة قراءة هذا العمل المتميز والمتفرد، وخصوصا في الجمع بين نصوص تكاد تتشابه مع أطروحات المعاصرين السابقين الباحثين في الفلسفة السياسية عند كانط. وعرضت المداخلة النصوص الكانطية التي تتفرق فيها مجموعة من الأفكار السياسية، بل ذهبت المداخلة إلى اعتبار المشروع الكانطي بدءا من كتاب: "نقد العقل الخالص" إلى كتاب: "نظرية الحق" مشروع تحركه هواجس سياسية، أساسها: تحرير الفرد من النظام الميتافيزيقي التقليدي الذي يمنح الشرعية للاستبداد، وتكريم الشخص أخلاقيا الذي يقطع مع العبودية، واعتماد العقل المشروط قبليا في النظر والفعل والذوق والاعتقاد، إذ تعدّ هذه المطالب مقومات المواطنة الحديثة.
وفيما يتعلق بالقانون والسياسة كشفت المداخلة عن الموقف المتميز لكانط عندما اعتبر أن "التعاقد الاجتماعي" ليس واقعة تاريخية يمكن أن تحدث، وأنها فكرة عقلية موجهة ومنظمة للحد من سلطات الدولة. وبهذا فإن كانط لم يكن ينظر إلى الدولة من منظور التأسيس، بل من منظور الإصلاح، وطريق الإصلاح يكمن في التأسيس الفلسفي للفقه القانوني والاجتهاد القضائي في وضع مبادئ الحقوق والحريات المدنية. إذ يجب في نظره حد صلاحيات الدولة من أجل حماية المدنيين من الممارسات التعسفية للسلطة، وهذا هو معنى "دولة القانون" أو "دولة الحق والقانون" وهي دولة دستورية تقيد فيها ممارسة الصلاحيات الحكومية من قبل القانون.
ركزت المداخلة في هذا السياق على أن النقاش الأساسي في بناء "دولة الحق والقانون" هو أن يتمتع المواطنون بالحريات المدنية تستند إلى القانون ويمكن لهم اللجوء إلى المحاكم، وليس فقط وضع آليات دستورية لتوزيع السلطة. إن مفهوم الدولة "الديمقراطية" يهتم أساسا بإضفاء الشرعية على النظام السياسي، ولكن لا يضمن بالضرورة الحقوق والحريات المدنية للمواطنيين. وعليه ألح الأستاذ أحمد الفرحان في مداخلته على ضرورة التمييز بين المفهومين، وأكّد أن درس كانط في الحق والقانون ينبهنا إلى أن السياسة يجب أن تتوجه بالحقوق والحريات، وليس أن تتوجه الحقوق والحريات بالسياسة. وأن الفعل السياسي يجب أن يتجه إلى الدفع بالدولة القائمة بغض النظر ديمقراطية أو أرستقراطية أو ملكية إلى تقييد صلاحياتها السلطوية التعسفية من أجل ضمان الحقوق والحريات المدنية للمواطنين، وهذا ما يصطلح عليه ب"القانون العام" في منظور كانط. وإذا نظرنا إلى السياق الألماني في القرن الثامن والتاسع عشر سنجد أن مفهوم سيادة القانون، كما تطور لأول مرة في ألمانيا في القرن التاسع عشر، من المفترض على وجه التحديد أن يتم تطبيقه على الأنظمة التي لا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبارها ديمقراطية، لأنها كانت ملكيات دستورية، أرستقراطية ورقابية. ومن ثم فإن الديمقراطية ليست شرطا لسيادة الحق والقانون. ولكن "دولة القانون" هي شرط الديمقراطية الحديثة. والحق والقانون هنا يفيدان معنى فلسفيا واحدا، فالحق والقانون الذي يكون شرطا للديمقراطية، ينتج عن مجهود نظري فلسفي كبير يؤسس لكرامة الشخص وللحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية من منظور حديث.
وفي الأخير، أكّد الأستاذ أحمد الفرحان أن الإصلاحات السياسية والحقوقية ببلادنا منذ 1990 إلى الآن، والتي تهدف إلى إرساء آليات حقوق الإنسان، من إصلاح مدونة الأسرة، إلى إصلاح القانون الجنائي هي مداخل يجب أن تتجه إلى الحد من صلاحيات السلطة وتغيير وظائفها، وطريق يمهد لبناء دولة الحق والقانون التي تعد شرطا أساسيا للانتقال الديمقراطي الحقيقي واستقرار المجتمع، وأن على النخب السياسية والحقوقية والثقافية أن تسهم بقوة في إصلاح هذه المشاريع من منظور حقوقي-سياسي، لأنه مدخل رئيسي من مداخل التفكير في الواقع السياسي المغربي الراهن.
وأنهى مداخلته متسائلا: لا نستطيع أن نحكم الآن على ما يحدث، نعم هناك حد ما من سلطة الدولة التعسفية في ظل الإصلاحات السياسية والحقوقية، ولكن المؤرخ هو الوحيد الذي سينظر في المستقبل القريب ليبين لنا طبيعة التغيير في سلطة الدولة هل في البنية أم في العرض؟