السبت 27 يوليو 2024
اقتصاد

عبد الغني السلماني: أزمة طلبة الطب ورهان الدولة الاجتماعية

عبد الغني السلماني: أزمة طلبة الطب ورهان الدولة الاجتماعية عبد الغني السلماني ومشهد لاحتجاج الطلبة أمام البرلمان

طلبة الطب المعركــــــة مفتوحة:

دخل إضراب طلبة كليات الطب والصيدلة شهره الخامس من مقاطعة الدراسة والتداريب الاستشفائية، وهو ما يهدد مستقبلهم بسنة بيضاء، لقد مثل هذا  الحراك  إكراه مضاعف على الأسر التي أصبحت منخرطة مع أبنائها في هذه المعركة التي لا تعرف أفقها؛ ما تعرفه الأسر هو تسديد واجبات الكراء وكل مستلزمات الدراسة من كتب ومراجع ومطبوعات،رغم كل الإكراهات،ونظرا لهذا الواقع المحتقن تخشى الحكومة من سنة بيضاء في كليات الطب بسبب الإضرابات، وهي تقول بأنها استجابت لمجموعة من مطالب الطلبة المضربين في حين لا يمكنها الاستجابة للمطالب المتعلقة بعدد سنوات التكوين، أو زيادة عدد مقاعد كليات الطب لأن هذا القرار "استراتيجي وسيادي".

لابد من التذكير  بأن طلبة الطب والصيدلة  دخلوا في معركة بمقاطعة شاملة و مفتوحة للدروس النظرية والتطبيقية والامتحانات منذ  16 دجنبر 2023 في جميع كليات الطب والصيدلة  بالمغرب، وذلك بناء على ملفهم المطلبي  الذي  يُظهر جميع مطالبهم والموجهة إلى كل من  وزارة التعليم العالي والبحث والابتكار ووزارة الصحة والحماية الاجتماعية ، هي معركة بإرادة جماعية وتصويت فردي ووعي بأهمية الملف المطلبي وكل تفاصيله، كما أنها مؤطرة من قبل  ممثليهم في اللجنة الوطنية لطلبة الطب والصيدلة وطب الأسنان الذي يعتبرونه طلبة الطب والصيدلة الممثل الشرعي والوحيد لهم .

جاء هذا الاحتجاج ردًا على قرار وزير التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، بتقليص فترة الدراسة في كليات الطب والصيدلة من 7 إلى 6 سنوات، بهدف زيادة عدد الأطباء الخريجين وهو ما اعتبره الطلبة مسا بجودة تكوينهم، مما دفعهم إلى الإنخراط في حركة احتجاجية التي عرفت العديد من التصعيدات، منها وقفات مسيرات وإنزال وطني أمام قبة البرلمان في الرباط والتي جاءت على الشكل التالي بتاريخ 07 دجنبر 2023، 19 يناير 2024، 29 فبراير 2024 وأخيرا وقفة 06 ماي 2024  .

أمام استمرار طلبة الطب والصيدلة في الإحتجاج ومقاطعة الإمتحانات تم لجوء إدارات كليات الطب والصيدلة وطب الأسنان إلى إحالة عدد من الطلبة أغلبهم أعضاء اللجنة الوطنية لممثلي الطلبة على المجالس التأديبية، وإصدار قرارات توقيف في حق بعضهم، إلا أن القرارات الصاحية التي اتخذتها الكليات، القاضية بحلّ المكاتب الطلابية ومنع أنشطتها إلا أن زملاءهم ما زالوا مُصرّين على نهج خيار المقاطعة، في وقت ما زال فيه الحوار مع الوزارتيْن الوصيّتين غائبا.

ولقد تجاوز عدد الطلبة الذين تمّت إحالتهم على المجالس التأديبية أكثر من 150 طالبا، بحسب ما هو متداول من قبل أعضاء اللجنة الوطنية لممثلي طلبة الطب والصيدلة، إنها اللحظة التي أججت الوضع ودفعت الطلبة الإستمرار في مقاطعة الدراسة، والتشبث بمطالبهم ومساندة ممثليهم وركوب موجة التصعيد حتى تحقيق ملفهم المطلبي، رغم القرارات التأديبية الصادرة في حق الطلبة فإن ذلك لم يدفعهم لعودة لاستئناف الدراسة من جديد.

 

بدل الحوار تأديب ممثلـــــــي الطلبة:

ويبدو أن وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار ووزارة الصحة والحماية الاجتماعية قد ارتأتا عدم تقديم “أي تنازل” للطلبة بخصوص المطالب الأساسية التي يرفعونها، وفي مقدمتها عدم تخفيض سنوات الدراسة، بعد أن أكدت الوزارتان أنهما استجابتا لـ 95 في المئة من مطالب الطلبة الأطباء المحتجين. إذا كانت إدارة كليات الطب والصيدلة قد اتخذت قرارات بحل مكاتب الطلبة ومنع أنشطتها كما قامت باستدعاء الطلبة المسؤولين عن قيادة الإضرابات لحضور مجالس تأديبية. فمع من تحاور الآن؟

من منظور الحكومة أن هذا الإصلاح أملته شروط أساسية وخيار استراتيجي وضعته الدولة من أجل توفير الشروط والموارد البشرية للتفاعل مع رهان التغطية الصحية الذي تطمح الدولة المغربية تحقيقه لجميع المغاربة، وقد كان هو الهدف الرئيسي وراء قرار تقليص مدة دراسة طلبة الطب في الكليات إلى ست سنوات، بهاجس توفير عدد كبير من الأطباء لضمان تحقيق الأهداف المسطرة والمتعلقة بالتغطية الصحية الشاملة.

ورغم إنزال القرار بشكل فجائي دون إشراك للجنة ممثلي الطلبة وعدم احترام الاتفاق إلا أن الطلبة اختاروا تجاهل الخرق، و تركه يمر مرور الكرام والتمسك بأمل إنزال نص منظم يرضي الأطراف.غير أن القشة التي قسمت ظهر البعير كما يقال هي تماطل الوزارة في وضع النص المنظم للسلك الثالث في ظل الاستغناء عن السنة السابعة ، وغياب "دفتر بيداغوجي" يوضح تدبير هذه المرحلة الإنتقالية في الإصلاح ، خصوصا وأن الموسم القادم 2024 - 2025 سيعرف وصول أول دفعة للسنة السادسة حسب "النظام الجديد" في ظل غياب معطيات حول الكيفية التي سيتم بها التعاطي مع رهان ورغبة الطلبة في استمرار التكوين ، كيف يمكن الولوج إلى  السلك الثالث من الدراسات الطبية ؟.

كما يمثل اكتظاظ في المدرجات الدراسية وواقع التداريب الإستشفائية، هاجس الطلبة لم يصاحبه مجهود ملموس من قبل الوزارة المعنية لتحسين القدرة الاستيعابية للكليات أو المستشفيات، ونظرا لواقع الضبابية التي يراها الطلبة تهدف إلى إنتاج أطباء "أرقام" لا أطباء أكفاء، بدأوا يفكرون في هذه المعركة التي تكلفهم الكثير على كافة المستويات.  

 

الحوار ورهان الدولـــــة الاجتماعية:

يبدو أن موضوع الحوار الاجتماعي يحتاج إلى تصورات نظرية قادرة على فهم الحالة وتأصيلها وحماية رصيدها حتى تكون خلفية الفاعل العمومي هو تحصين المكاسب وتقديم الحلول، وخاصة حين يقتنع بالشراكة بين الحكومة والتمثيليات الاجتماعية، ولأن الحقوق الاجتماعية تعرف تحديات كثيرة في إطار ما يعرف بالتحول الذي تعرفه الديناميات المجتمعية من تعبيرات جديدة تستدعي التفاتة جدية. فالحوار الاجتماعي من أهم غاياته هو  وجود خلفية الشراكة لرهان  الدولة الاجتماعية، التي ترمي  إلى  تأمين وتقديم مجموعة من الخدمات الاجتماعية في شكل مساعدات للفئات الضعيفة  والهشة داخل المجتمع، بحيث تصبح الدولة مسؤولة عن حماية مواطنيها من الوقوع في براثن اقتصاد السوق وهيمنة الرأسمال  المتغول كإفراز  للإقتصاد المعولم ، فرهان الدولة الاجتماعية هو  ضمان التوزيع العادل للموارد بين  للمواطنين من خلال سن مجموعة من التشريعات والقوانين  لتأطير كل  التدخلات ذات الطابع الاجتماعي بما فيها التغطية الصحية وغيرها من الخدمات الأساسية. هذا الرهان الذي يؤسس لمرحلة الدولة الاجتماعية لا يستقيم مع قرار توقيف ممثلي الطلبة باعتبارهم الرأس مال البشري المعتمد عليه في وضع أسس إنجاح رهان المنظومة الصحية الوطنية، مما يشوش على استراتيجية وضع أعمدة الدولة الاجتماعية، كما لم يعد لمفهوم الوساطة أي أثر!

 الواقع اليوم يستدعي الرغبة والإرادة من أجل تناول كل الملفات التي تمس المجتمع والبحث عن تأطير الممارسات الاجتماعية التي تفرض نفسها. وهذا ما يجب أن بأخده السيد وزير التعليم العالي في الحسبان ، عليه أن يستوعب  أن  الحركات الاجتماعية كبُرت، ولم يعرف  كيف يدمج  الوافدين الجدد في الحوار   ممثلي الطلبة أعضاء اللجنة الوطنية ،ما وقع مع رجال التعليم يتكرر مع طلبة الطب بصيغة أخرى ،  ما ينبغي الإنتباه إليه أن الحقل الاجتماعي أصبح له إشكالات جديدة  ولا سبيل سوى  الحوار  الذي يُؤمن  الوصول إلى مجتمع يتحرك بتوافُقات اجتماعيّة تؤسس لمضمون الدولة الاجتماعية . وليس بالتهديد لأن مغرب اليوم لم يعد في حاجة لسلوكات الماضي التي تم تجاوزها بإرادة جماعية، فمن شروط الحوار ونجاحه أن يستند على التمثيلية الحقيقية، وهو ما يظهر بشكل جل في معركة طلبة الطب الذين ينخرطون مقتنعين بمعركتهم وعدالة مطالبهم مما يتطلب اعتماد ميكنزمات فعالة في فهم آلياتهم وحسن التفاوض معهم من أجل إنقاذ السنة الجامعية .

 

عنق الزجاجــــــــة الغير المختنق:

قد يكون سوء تقدير وزارتي التعليم العالي والصحة والحماية الاجتماعية لمعطيات الاحتجاجات التي يقودها الطلبة مند خمسة أشهر، لم يجد وزير التعليم العالي من مبادرة يقوم بها غير توقيف ممثلي الطلبة في مجالس قال عنها الطلبة صورية . مهما كان تقدير الفاعل والمتتبع  لفعل المقاطعة والذي استمر لشهور  و الذي أظهر عمق المشاكل المترتبة عن القرارات المتسرعة لرؤساء الجامعات في التوقيع على متقترحات توقيف الطلبة ، فإن الوزارة ستكون واهمة إن اعتقدت أنها تحل بعضا من المشاكل بتوقيف ممثلي الطلبة أو تكسر شوكة عزيمتهم . بل إن مثل هده القرارات المتسرعة ستشعل الوضع أكثر مما هو مشتعل وتقضي على أي أمل لحل المشاكل.

ونظرا لمحدودية المقاعد بكليات الطب والصيدلة وطب الأسنان ومعاناتها من التكدس أصلا، فإن شبح السنة البيضاء يعني، من جملة ما يعنيه بالإضافة لضياع عام من مسار جيل وضياع سنة من حياة وحاجيات أمة، يعني كذلك أن الحاصلين على البكالوريا هذه السنة لن يتمكنوا من الالتحاق بكليات الطب والصيدلة وطب الأسنان.. السيناريو مفزع ويتطلب الحكمة والتعقل وبعد النظر.

المقاربة الأمنية ولو بشكل مخفي لن تحل المشاكل المرتبطة بالمنظومة التربوية وبمشاكل قطاعي الصحة والتعليم العالي وبالميزانيات وبالقوانين وبغياب السياسات الواقعية.. الوضعية حساسة جدا ولا مكان للتسرع، بل المطلوب الحكمة والتبصر من لدن كل الأطراف. الفشل ليس هو الحل الوحيد الممكن. بإمكاننا النجاح ونحن نعبر هذا المسار الطويل والذي يتطلب الإرادة الجماعية في التحدي وتجاوز الإعطاب.

 

ما العــــــــــــــــــــمل؟

لا شك  أن المتتبع لمعركة طلبة الطب   يظن أننا  أمام مفترق الطرق بالنسبة للسنة الجامعية الطبية، التي سيكون لها أثر كبير على أجيال الطلبة الحاليين  والذي يقارب 25 ألف طالب والدولة في حاجة ماسة إليهم  وكذا لمن يرغب في خوض هذا المسار بالنسبة للأجيال القادمة ، على صناع القرار وهم يدشنون  لأوراش صحية تروم إعادة تأسيس المنظومة الصحية الوطنية على ركائز جديدة ، لابد أن  تستحضر المصلحة العليا للبلد من خلال   إنقاذ  السنة الجامعية الطبية من المجهول الذي ينتظرها، و جعل الصحة عمادا للتنمية ، لابد من بحث عن صيغة تحافظ للجميع على مكانته الإعتبارية  بما فيها مطالب الطلبة وخاصة  رغبتهم في جودة التعليم ، ورهان الدولة الاجتماعية الذي تقوده هذه الحكومة عبر التوافق على مطلبي تحديات التكوين الطبي ومستلزماته لإنجاح الاوراش الصحية الكبرى التي يعرفها المغرب، بمشاركة كل المتدخلين المعنيين وخاصة النقابة الوطنية للتعليم قطاع الصحة .ولتحقيق هذه الغاية لابد  من استئناف الحوار بين الوزارتين والطلبة وباقي المتدخلين ولو تطلب الأمر مناظرة وطنية أو يوم دراسي داخل البرلمان ويكون بمقدمات واضحة متفق حولها :

1 . تجاوز القرارات التأديبية التي تحرم ممثلي الطلبة من استكمال أو استئناف دراستهم، بصوت واضح عودة الموقوفين بدون قيد أو شرط؛  

2. عودة الطلبة إلى المدرجات واجتياز الإمتحانات وفق تواريخ متفق حولها مع عمداء الكليات؛

3. فتح نقاش وطني حول الصحة وأن يرتفع فيه صوت الخبير وخاصة أساتذة كلية الطب بحكم عملهم وتجربتهم وخبرتهم؛

4.  الوزارتان الوصيتان في حاجة لشرح مرامي الإصلاح عبر خطة تواصلية تشرك فيها كل الفاعلين.

 وعليه؛ أعتقد أنه لا زالت أمامنا ( الأباء ، الطلبة ، الحكومة ...) فرصة  من الأمل لنتجنب الفشل  القادم و الذي يلوح بسنة بيضاء ،  فعبر آلية الحوار والتواصل يمكن  تجاوز ما ضاع و تداركه، فالمصلحة العامة تقتضي التضحية من قبل الجميع.

عبدالغني السلماني،  كاتب