الخميس 9 مايو 2024
كتاب الرأي

الزاوي: التاريخ الجهوي وأسئلة المنهج

الزاوي: التاريخ الجهوي وأسئلة المنهج مولاي عبد الحكيم الزاوي،  أستاذ باحث
 نطلق هذه الورقة من توجيه أساس. يتأسس هذا التوجيه على اعتبار الكتابة التاريخية على ضوء عطاءات العلوم الإنسانية تمرين منهجي مفتوح باستمرار. لا يمكن الحديث عن أوراش بحثية منتهية الصلاحية. كل جيل مُطالب بكتابة تاريخه وإعادة قراءته وفق حاجياته. "...إذ خارج رهانات الحاضر لا معنى أصلا للعودة إلى التاريخ" وفق ما يدافع عنه المؤرخ محمد الطاهر المنصوري في تجربة الاسطوغرافيا التونسية. قبل توضيح الفكرة، وجب الانطلاق من استفهام أولي: على أي أساس يُمكن تشييد هذا التدقيق المنهجي؟
 يُشَيَّدُ التدقيق على قضية مركزية هي الانفتاح. من شأن الانفتاح بمقتضى التراكمات المكتسبة أن يُخصب النظرة إلى أوراش الحقل الاسطوغرافي. انتهى الزمن الذي كان يُنظر فيه إلى قضية الانفتاح من زاوية الموضة العابرة وفقط، وحلت محله النظرة التي تنظر إلى الانفتاح من زاوية الأفق المنهجي الذي يُحصن مكتسبات المعرفة التاريخية، ويجدد زوايا النظر والمعالجة، وينقل الكتابة التاريخية من وصفها كتابة سردية وصفية إلى كتابة بوصفها بناء تركيبي وتأويلي مندمجة في رؤية شمولية واحدة.
بهذا الاعتبار، يشترط الانفتاح ضرورة إعادة النظر في علاقة الكتابة التاريخية بثلاثة مداخل أساسية: شبكة المفاهيم أولا، البناء الاشكالي ثانيا، والنظرة إلى الأرشيف ثالثا...استدماج هذه المداخل كفيل بأن يعبر بالكتابة التاريخية نحو تشييد سردية منهجية تعيد بعث بعض اللحظات التاريخية الحساسة إلى مختبر التاريخ. في هذا المقام، وجب علينا أن نضع هذه الاشتراطات المنهجية في سكة المسارات البحثية التالية:
1- البحث في التاريخ كماض وكذاكرة.
2- البحث في التاريخ كخطاب ابستمولوجي.
3- البحث في التاريخ كانتاج  ديداكتيكي.
  ولئن كان التاريخ "ابستمولوجيا مختلطة" كما قال الفيلسوف الفرنسي بول ريكور، وأن معارك التاريخ الكبرى قضت بأن ينخرط التاريخ ضمن "السوق الإنسانية المشتركة" بتعبير مؤرخ المتوسط فرناند بروديل...فلا قيمة للكتابة التاريخية إن لم تنفتح على تراكمات العطاء الإنساني والمناهج المعاصرة. يمكن أن نستحضر بعض المقاربات التي يمكن أن تساهم في تجديد حقول الكتابة التاريخية من قبيل مقاربات مدرسة التاريخ من أسفل في بريطانيا،  ومدرسة الحياة اليومية في ألمانيا، ومدرسة الميكرواستوريا الايطالية، ومدرسة التابع في الهند...ما الداعي إلى ذلك؟ نعتقد أن مقاربة الإلتصاق بالوثائق كما تؤسس لذلك فرضية أندري بورغيير في مقالة له ضمن كتاب التاريخ الجديد لا تقدم سوى إرهاصات بسيطة لإعادة بناء الماضي. البناء يجب أن يتأسس على إشكالية محددة، ووفق شبكة من المفاهيم تدمج الحدث ضمن سياق البنية التي احتضنته.
إذا انطلقنا من هذه الخلفية المنهجية. في المغرب، لا تزال أوراش كتابة وإعادة كتابة التاريخ الجهوي واعدة جدا على ضوء الحصاد التراكمي المنجز، سواء في الصيغة الكولونيالية، أو في الصيغة الوطنية. والمقصد هنا، ورش معرفي يشتبك مع الأسئلة الكبرى لسياسة الإختيارات الجهوية والتقسيمات المجالية، ويضع الجهة في قلب التنمية. لا يمكن المراهنة على خلق التنمية الجهوية دون خلفية تاريخية، دون العودة إلى استنطاق الماضي، ماضي القبائل المغربية بمورفولوجيتها وتراتباتها وعلاقاتها...ينتظر من المؤرخ أن يعمل على صياغة سردية تاريخية دورانية تراوح بين الماضي والحاضر من أجل المساعدة على المداخل الممكنة لتحقيق التنمية في الجهة. الجهة في اعتبار المؤرخ بناء مجالي وزمني...تستمد هذه الأوراش شرعيتها العلمية من قدرتها الإجابة على انشغالات البوادي المغربية في مدارات زمنية تحيل على عنف التحول؛ من مجالات اعتملت خلالها تضامنات عضوية إلى مجالات صارت بها تضامنات آلية.
في حقيقة الأمر،  التفكير في مقتضيات التاريخ الجهوي هو في أساسه بعث لاستفهام سوسيولوجي سبق لجاك بيرك أن تناوله في فضاء المغارب، ماذا تعني القبيلة في شمال افريقيا؟ صيغة السؤال باعثة على إعادة فتح سِجلات الأرشيف للجواب عن أسئلة القبيلة في الحاضر...ينصرف القصد صوب تنظيم اجتماعي استطاع أن يتغلب على انقساميته، وأن يضمن استمراريته في خضم تحولات سياسية واقتصادية وايكولوجية خانقة.
وحتى نتمكن من تعقب ذلك. خاضت الكتابة التاريخية المغربية منذ لحظة الاستقلال في إشكاليات تتناول قضايا التاريخ الجهوي. كان المنطلق وقتها لا يخلو من خلفيات هوياتية انتمائية. في الحقيقة،  لقد قاد الاستعصاء الذي طرحته مسألة كتابة تاريخ الحماية الموكول إلى المؤرخون الأجانب من أمثال دانييل ريفي وبيير فيرمورين ووليام هوينسطن وآخرين...إلى تغيير المسار نحو كتابة يبدأ من مجريات تاريخ القرن التاسع عشر. 
كيف تقرأ هذه المسألة؟ يتعلق الأمر بمحاولة البحث عن جذور أزمة دولة فقدت سيادتها في سياق بنية عامة قامت على التجاوز...لقد تبنى الباحثون رؤية استرجاعية للزمن revenant من الإستعمار إلى أصول الاستعمار، ومن الحركة الوطنية إلى جذور الوعي الوطني مثلما يُدقق في هذه الجزئية المؤرخ عبد الأحد السبتي.
عودة إلى سؤال التأصيل، تأصيل لحظة البحث. لقد بدأت لحظة الإهتمام بتحليل القبيلة المغربية من خلال مقال يعود إلى السوسيولوجي الفرنسي جاك بيرك ط صدر سنة 1938 تحت عنوان" دراسات في التاريخ القروي". نحن هنا أمام تأليف سوسيولوجي بنَفس تاريخي جد واضح أغرى الباحثين المغاربة للكتابة في الموضوع. تراكمت بعد هذه المحاولة أبحاث تاريخية في السياق الوطني مع منتصف السبعينات من القرن العشرين من خلال أطروحة "اينولتان" لأحمد التوفيق  و"تافيلالت" للعربي مزين، وصولا إلى لحظة الإسهال المفرط التي أفقدت هذا النوع من التاريخ خصوبته المعرفية، في سياق زمني معين، لا زالت تداعياته تخيم على المشهد التاريخي إلى اليوم.

 
 تسمح مسارات التاريخ الجهوي بالكشف عن أربع لحظات كبرى ضمن بنية الانتاج:
1- لحظة المحاولات الفردية: 
 انصب اهتمام الباحثين الأوائل في نهاية القرن التاسع عشر على  استكشاف وتحليل المشهد الاجتماعي بالمغرب، من منظور المغايرة، الغرابة، الطقوس السحرية والإيكزوتيزمexotisme...كانت المنطلق في البناء رؤية إثنومركزية متعالية تنهل من تاريخانية تجاوزت فيها أروبا العوالم الجغرافية المجاورة.  تجسد هذه اللحظة بداية تحول مفصلي في علاقة أوروبا بالآخر المختلف في سياق تحضير  مشروع الغزو والدمج فيما يطلق عليه ب "المهمة الحضارية"la mission civilsationnelle. تحضر في هذا الصدد عدة أسماء من قبيل مثل أوغست مولييراس في كتابه الضخم "المغرب المجهول"، وشارل دوفوكو في كتابه "التعرف على المغرب" وآخرين...وعلى الرغم من تداخل المعطى الواقعي بالمتخيل، وامتزاج السرد بالوصف والتخمين، في مؤلفات هؤلاء، إلا أنها مكَّنت من بناء صورة عن واقع المجتمع المغربي غذت الفضول وأشبعت المخيال الأوروبي في تلاقي حادث بين سلطة المعرفة وسلطة السياسة.

 
2- لحظة المأسسة العلمية:
ظهرت سنة 1903 من خلال نواة البحث السوسيولوجي بطنجة تحت مسمى "البعثة العلمية" بغرض إقامة مسح شامل للمجال المغربي، وإنجاز تحليل ميكروسوسيولوجي لميكانيزمات اشتغال المجتمع المغربي، والعمل على تفكيك ثالوثه الفاعل: المخزن، القبيلة، والزاوية بخلفية إدارية محضة. وقد عبرت دراسات كل من ألفرد لوشاتليي، ادموند ميشو بلير، جورج سالمون، إدموند بورك وروبير مونتاني عن هذا الاتجاه التي جُمعت في "الأرشيفات المغربية" ومجلة " العالم الاسلامي" و"مدن وقبائل المغرب".

 
3- لحظة البحث الأنثربولوجي:
ابتداء من ستينات القرن العشرين برزت أبحاث أنجلوساكسونية غلبت عليها النفحة الأنثربولوجية، حاولت فهم وتأويل أبعاد المجتمع المغربي، من خلال استجلاء لثنائية الثابت والمتغير في الأنساق الاجتماعية والسياسية والدينية، والبحث في الأنساق السياسية، ودينامية السلطة، وقياس كيفيات العبور من المجتمع التقليدي إلى المجتمع العصري...ظهرت في هذا الصدد، عدة أسماء وازنة، مثل  كليفورد غريتز "سوق صفرو: اقتصاد البازار"، وإرنست كلنير في كتابه "صلحاء الأطلس"، وبول رابناو" الهيمنة الرمزية: التشكل الثقافي والتغيرات التاريخية بالمغرب" وديل اكلمان "المعرفة والسلطة"، وجون واتربوري" أمير المؤمنين"، وبيرنار هوفمان "بنيات المجتمع القروي التقليدي "وإلين تيتوس هوفير "قبيلة الرحامنة قبل الغزو الفرنسي" ودافييد هارت "قبائل أيت عطا"...

 
4- لحظة البحث المونوغرافي الوطني:
يمكن التأريخ لهذه اللحظة بمنتصف السبعينات من القرن العشرين، من خلال الأطروحة التي أعدها أحمد التوفيق للمناقشة في إطار دبلوم الدراسات العليا تحت عنوان "المجتمع المغربي في القرن التاسع عشر: اينولتان 1850-1912"، وهي لحظة تشكل انعطافة حاسمة في تاريخ الكتابة التاريخية، تعبر عن لحظة تخلص الاستوغرافيا المغربية من هاجس الرد على الكتابات الإستعمارية، وبناء حوار مثمر مع هذه الكتابات، كما يظهر مع أحمد التوفيق في محاورته لروبير مونتاني، وغلنير وبيرك، أو كما برز مع عبد الرحمان المودن من خلال أطروحته "إيناون" في محاورته للاقتصادي الفرنسي كارل بولانيي.

 
 تكشف حصيلة البحث التاريخي في هذا الشأن، عن وفرة من حيث الكم في مبحث التاريخ الجهوي. هيأت هذه الوفرة دراسات قامت بالمسح المجالي لجغرافية المغرب، بقبائله وزواياه، بمدنه وجباله...غير أنه، من الناحية المنهجية، لم تعكس نوعا من الإختمار في تناول ثلاث قضايا: المنهج، تمتل الزمن، وبناء الموضوع...بالنهاية، يمكن لتلاقي هذه الأغلفة أن يدفع نحو بناء سردية تركيبية تجيب عن انتظارات الفاعلين السياسيين بخصوص التنمية في الجهات المغربية.
 
بالعربية:
1- السبتي عبد الأحد، التاريخ الاجتماعي ومسألة المنهج، ملاحظات أولية، ضمن البحث في تاريخ المغرب: حصيلة وتقويم، منشورات كلية الآداب والعلوم الانسانية بالرباط، 1989.
2- السبتي عبد الأحد، التاريخ والذاكرة، أوراش في تاريخ المغرب، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى،2012.
3- بوطالب ابراهيم، البحث الكولونيالي حول المجتمع المغاربي في الفترة الاستعمارية، حصيلة وتقويم، ضمن البحث في تاريخ المغرب، منشورات كلية الآداب والعلوم الانسانية بالرباط، 1989. 
4- حبيدة محمد، بؤس التاريخ، مراجعات ومقاربات، دار الامان، الطبعة الأولى، 2015.
5-  التوفيق أحمد، المجتمع المغربي في القرن التاسع عشر، اينولتان (1850-1912)، منشورات كلية الآداب والعلوم الانسانية بالرباط، 1983.
6- الزاهي نور الدين، المدخل لعلم الاجتماع المغربي، دفاتر وجهات نظر، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الاولى، 2011.
7- المودن عبد الرحمان، البوادي المغربية قبل الاستعمار، قبائل إيناون والمخزن بين القرن السادس عشر والتاسع عشر، منشورات كلية الآداب والعلوم الانسانية، الرباط، 1995.
8- طحطح خالد، الكتابة التاريخية، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، 2012. 
9- ريكور بول، الزمن والسرد، ترجمة الغانمي وفلاح رحيم، مراجعة جورج زيناتي ، بيروت، دار الكتاب الجديد المتحدة، الطبعة الأولى، 2009م.

بالفرنسية:
1-Berque JacquesˏCent vingt-cinq ana de sociologie maghrébines, Annales. Economiesˏ Sociétésˏ Civilisationsˏ n 3ˏ1956.
2-Berque Jacquesˏ Eudes d’histoire rurale maghrébinesˏ Tanger- Fèsˏ 1938.
3- Khatibi Abdelkebirˏ Bilan de la sociologie au Marocˏ Rabatˏ 1967.
4-  Weber Maxˏ Essai sur le sens de la neutralité axiologique dans les sciences sociologiques et économiquesˏ in Essais sur la théorie de la science(1917)ˏ traduit de l’allemand par J. Freudˏ parisˏ 1965.