الاثنين 6 مايو 2024
كتاب الرأي

حميد لغشاوي: الأسرة المغربية بين الوعد الإيديولوجي والمواعدة العمياء    

حميد لغشاوي: الأسرة المغربية بين الوعد الإيديولوجي والمواعدة العمياء     حميد لغشاوي
حظي مشروع تعديل مدونة الأسرة في النقاش العمومي والجدل السياسي باهتمام مكثف، ولاذع في بعض الأحيان، أي نحا نحو ما يصطلح عليه في لغة التداول السياسي بثنائية العمل التكتيكي والفعل الاستراتيجي (وكلاهما مفهومان تسربا إلى السياسة من اللغة  العسكرية الحربية)، ومن أفظع خصائص الحرب ـ حسب جورج أورويل في مذكرياته ـ "هي أن كل الدعاية الحربية، والصراخ والأكاذيب والكراهية، تأتي بصورة دائمة من أولئك الذين لا يقاتلون". وفي حديث آخر يقول: " لابد أن نقول إنّها دعاية غبية...يفكر الجميع بشكل قضائي، حيث أصبح كل شخص يطرح ببساطة "قضية" مع قمع متعمد لوجه نظر الخصم".
إن الافتراضات التي تجود بها وسائط الإعلام؛ الرسمية والرقمية: المكتوبة والمسموعة والمرئية، لاتخرج عن مقياس كسوة السياسي أو ترتدي جلباب الفقيه أو قميص الحداثي، بيد أنّهم يجانبون الصواب، ويصدق عليهم قوله تعالى "بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ"، مادام يركزون على الحصيص المادي، وخياراتهم مزيّنة بميزان المصالح، إنّهم باحثون عن "ربح الأنا" و"خسارة الآخر"؛ اقتصاديون، والمشكل بالنسبة للإنسان الاقتصادي (The economic Man)  هو كونه "معاديا اجتماعيا وماديّا ومهتما بالمال والمكاسب المادية فقط، وهو مستعد بالتضحية حتى بأمه من أجل الحصول عليها" . 
 دَعْكُم من هذا الغمز الإيديولوجي الذي أبغضه، وهل تقتضي الأسرة المغربية كل هذا الغمز البئيس؟ ودعونا نطرح السؤال الآتي: هل نمتلك القدرة الفعلية على تحمل التفَكّك الأسري وما يمكن أن يخلّفه من آثار اجتماعية سواء على مستوى الفرد (الطفل) أو الجماعة(الأسرة) ما دام التحول الإلزامي صار ثابتاً اليوم؟ لنضع السؤال بطريقة أخرى أكثر وضوحاً: هل الوضع الاجتماعي الجديد، الذي استبدل الروابط القديمة بروابط جديدة أكثر هشاشة، يمكن أن يقبل بالمعايير الإيديولوجية (الحداثية) الخداعة، وبالقيود والضرورات التي أصبحت في حاجة إلى مراجعات إلزامية؟  
  في مسألة الحد الأدنى للفهم الثاقب يمكن القول: إن الفكر الخالص يهتدي إلى العلل والأسباب قبل النتائج، وإذا قلنا إن الرؤى السابقة، تلك التي تركز ترتكز على المكاسب ستكون ضربا من الهراء، إن لم تأخذ بأسباب التعولم الرقمي ومستجدات الحاضر، وخاصة تلك التي يروّجها الذرائعيون النفعيون، ولايمكن أن تكون مجدية ولن تقدم رؤية مفيدة في سبر أعماق التحديات الجديدة لإعادة ترتيب البيت الداخلي للأسرة، وسيكذّبهم منطق التاريخ الجاد في هدم المشترك وروابط الجماعة، والأكثر إلحاحاً في الإعلان عن نهاية حضارة شاخت وعلى حافة الانهيار.
 إن العدسة المجهرية التي نقرأ بها واقع الأسرة تأخذ بعين الاعتبار "الحياة السمارتفونية" الثنائية الأبعاد: واقعية /افتراضية (أي الانتقال من الجماعة/ إلى الشبكة). لابد أن نؤكد إنّنا اليوم في حضرة نشاط ذهني مركب، ولم يعد خالصا حتى تصدق عليه القيم الحداثية، خاصة حين نتأمل بتلك العدسة الرقمية السلطة والسياسة والأخلاق. والذين ينتصرون إلى الحداثة يبدو أنّهم لم يقبلوا بعدُ شيخوخة قيَمهم "الصلبة"، وثيابهم البالية التي كانت محددة ومقيّدة بعقد مزيّنة ومن ثم احتفظت بلونها وشكلها. فالتغيّرات التي يتميز بها العصر التكنولوجي ينبغي أن تُعطى لها ثقلاً وأهمية في فهم سلوك الفرد والجماعة؛ أي فهم روحهما ومنهجيتهما في الحياة، ومثل هاته الرؤية عربون لكسب رهان فهم أعمق لظاهرة الطلاق والعزوف عن الزواج. 
 يمكن القول، إن الحضارة الرقمية هي التي تحدد مستقبل الحياة، ونموذج الفرد والأسرة اللذين تريدهما، مادمت الغالبية العظمى لسكان الكوكب تسكن شبكاتها التواصلية، وبذلك فهي تصنع مجتمعها الخاص؛ مجتمع ما بعد الطموح الحداثي. لنكن أكثر دقة في هذا التوصيف ونقول: إنّها تتأسس على الانحراف بتدمير البعد الحداثي والاعتناء بالمهام البديلة التي "تُهَجن" القيم، وتساعد البشرية على التحرر والتفاعل عبر الاتصال والتواصل والأخذ بأسباب التعولم المتسارع. ومبدأ "الصراع الاجتماعي" فيها لا يحقق فضيلة أو انتصارا، بل إشباعا كاملاً للرغبة. وما "يبدأ رغبة لا بد أن ينتهي إدمانا"، وسلوكا شاذا وهذا ما نسميه بالنفايات (Les déchets). (مثل برنامج "المواعدة العمياء Blind Dating") .
إن التدهور الجذري الذي أصاب روابط الأسرة ليس مفاجئا، يجب التأكيد على ذلك بخط عريض؛ ما نعيشه اليوم من تفاقم أسري نتيجة حتمية لسيرورة التاريخ، وأن البشرية ستجرب هذه المرحلة من التاريخ الجديدة. ثمة أسباب وجيهة تدفعنا إلى قول ذلك؛ فهذه الوفرة المتاحة من المعرفة والتواصل الافتراضي المفتوح عبر شركات "الغافام" تعزز من فرصة بناء كينونة هشة ومعدّلة وقابلة للزوال والإنهاء السريع؛ أي ما ستفتقده الأسرة هو فضيلتا "الصبر والإخلاص".
هذا التدهور الجذري الذي أصاب فضيلة الصبر، الذي كان يشكل أساسا محوريا في ديمومة الأسرة، يُرَغِّبُ في الإنهاء السريع الجذري للعلاقات الضارة ـ حسب الفيلسوف البولندي زغمونت باومان ـ "لكن ذلك يؤدي إلى مشكلات أخرى، فأغلب الناس يرون أن قطع العلاقات مع شريك الحياة، لأنه لم يعد يؤدي الخدمة أو لأن الخدمة التي يؤديها لم تعد مثيرة قد يكون أكثر تعذيبا وفظاعة من التخلص من سيارة قديمة أو حاسب آلي قديم" .
ثمة في وسائط التواصل الاجتماعي أيضا ما يساهم في فقدان قيمة "الإخلاص"، ومرارة التفكك الأسري، بالتسويق لطرائق العلاقات المتاحة، حيث إن السوق الافتراضي مليء بما يُسمون "أهل الخبرة" الذين يقدمون إرشادات وحلولا ونصائح لتغيير نمط الحياة الروتينية؛ منها تلك الإرشادات التي يُقدّمْنَها  بعض النسوة (فشلنا في تأسيس علاقة أسرية سليمة) تبني تصوراً مزيّفاً لحياة جميلة، كالشغل وتحصيل المال والسفر...إلخ. وهو ما يعني إعادة ترتيب أولويات حياة الأفراد بالبحث عن سبل أخرى للنجاح.
 إن هذه الإرشادات (الفيروسات) المؤسسة على  النفاق والمصلحة الضيقة والمعتقدات الشائعة والمكروهة والمكرورة، والغلو والإحباط والآمال القاتلة ذات العمر القصير (وهو ما سميته في واحد من كتبي ب"الإيديولوجية الافتراضية")، تكرّس في مجملها مفهوم "الفردانية  individualisme" التي تسهل على الفرد الانفلات من أسس الأسرة التقليدية؛ كالتعاون والحميمية والتفاوض الودي والتعايش المشترك، هذه القيم صارت شاقة ويصعب على الفرد الغارق في العوالم الافتراضية، الغاصة بالمثاليات والعيوب المباحة، التعامل معها، فبالأحرى تحملها وتحمل أعباءها.  (والعزوف عن الزواج صورة مثلى للتبرير) 
 دعوني أكرر، وأؤكد، إن الحياة الجديدة هي حياة تجريب مستمر وتفتقد إلى الحميمية المباشرة؛ فعُقدها الرابطة "هجينة"، وجوهرها وغايتها ضبابية وهشة وضيقة، ولا تتطلب كثيرا من الالتزام والحس الأخلاقيين. إنها تؤسس أسرة بهوية افتراضية مؤقتة / عابرة تربطها عُقَد تشبه عقد المنصات، المفتوحة على تجريب البدائل والخيارات المتاحة (كالطلاق). والصعوبات التي سيعاني منها المغرب لن ترتبط بالاقتصاد أو السياسة أو الأمان، بل بالهوية الروحية والفكرية للأسرة. لقد أصبحت الهوية الروحية متقلبة، والفكر لايتأسس على ثوابت الديمومة واليقين والحقيقة والأمان والثقة، بل على  التغير والتجدد والهشاشة والتفاهة والقيم الضالة.