الاثنين 25 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

عبد الخالق حسين: جمالية القراءة الجماعية للقرآن وروحانية دعاء الختم

عبد الخالق حسين: جمالية القراءة الجماعية للقرآن وروحانية دعاء الختم عبد الخالق حسين، رئيس المجلس العلمي لطانطان
1- دعاء ختم القرآن الكريم المبدوء بهذا البيت: يارب اختم لنا بخاتم السعداء// بحرمة الدين والقرآن والشهداء.. - وكلماته مرفقة مع المقال-  يتلوه جماعة حفظة القرآن وأئمة المساجد في مملكتنا الشريفة عند ختمهم لكتاب الله، وبلغتنا الدارجة عند (ختم سلكة القرآن).. وغالبا ما يقرأ في المجلس بعد غسل الأيدي عقب الأكل.. خاصة بعد الانتهاء من أكل الفاكهة ووضع صحون أنواع المكسرات.. وفي أغلب الأحيان تتزامن قراءته الجميلة المغناة بلحن مطرب مؤثر مع جولة (رش العطور والمسك) والوقوف لأخذ حصة من "دخان البخور" المتصاعد المنعش.. ما أجمل تلك اللحظات وما أروع تذكرها.. 
 
2- يتضمن هذا الدعاء: العقيدة الصحيحة؛ ومحبة سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ والتوسل والتضرع إلى الله.. وكمال الخضوع والعبودية.. والجميل والأجمل أنه يقرأ ويؤدى جماعة، أي جميع الحضور يردده بصوت مغنى وموزون وجميل.. يحرك القلب ويقشعر منه الجلد.. وتذرف منه العين.. 
 
3- للأسف؛ لازال البعض مصرا على جهله.. مكابرا ألا يتفهم الخصوصية المغربية في قراءة القرآن جماعة بعد صلاة الفجر  والمغرب.. وتلاوة قصيدة البردة والهمزية جماعة.. وأحيانا التغني بقصيدتي الدعاء الناصري والمنفرجة جماعة.. إنها جلسات جماعية لذكر الله.. بيد أنه "ذكر فريد" يجمع بين الذكر والتعليم.. وخلق جو روحاني يسمو بالنفس ويحلق بالفؤاد.. 
 
4- إنها الخصوصية المغربية.. التي تجعل الطفل والشاب الذي يحضر هذه المجالس كأنه يتلقى "تلقيحا مناعيا"ضد الغفلة والانحراف في المستقبل.. اسألوا الطلبة المغاربة في "أوروبا والغرب عموما.. وكذلك التجار المغاربة المغتربين في الصين وأمريكا وغيرها من أرض الله..الذين تربوا في أجواء هذه الأذكار الجماعية و هذه المجالس الروحانية السامية، كيف أنهم ينظرون إلى العالم وزينته وشهواته بنظرة "الواثق" في دينه الإسلام وتدينه المغربي الفطري؛ وينخرطون في صد هموم الغربية بعزم وأناقة وثقة مفعمة بنظرة "المستعلي" عن الانجرار والتقليد والاستيلاب.. وذلك لسبب واحد ووحيد هو كونهم ذاقوا حلاوة الذكر الجماعي بتلك الطريقة المغربية الفريدة؛ التي تجمع بين البساطة والتواضع وصلة الرحم ودفء الدوار والقرية؛ وروحانية المسجد أو الزاوية؛ و"ديموقراطية الحضور" حيث ركبة الفقيه تلامس ركبة القائد، وركبة الأستاذ تلامس ركبة الامي، وركبة الطبيب تلامس ركبة الفلاح وراعي الغنم.. إنها الخصوصية المغربية عندما يقوم الطبيب أو الأستاذ للحضور في مجلس القرآن، الماء لغسل الأيدي باستعمال المغسل التقليدي النحاسي؛ أذكر أنني حضرت قبل سنين مجلس مباركا ورأيت عاملا لصاحب الجلالة يخدم الضيوف ويصب لهم ماء غسل الأيدي بكل تواضع وأريحية قبل وجبة عشاء!!
 
5- إنها الخصوصية المغربية؛ عندما يرفع الفقيه الشيخ الورع؛ دعاء الختم فيتقدم الحضور تباعا، بغير إلزام - ليضع الواهب في يد الفقيه "دراهم معدودة" ينوي بها بلوغ ثواب المجلس والقراءة والدعاء للوالد وللوالدة؛  فيدعو الفقيه لهما بذكر الإسم والحضور يؤمن على الدعاء.. إنها الخصوصية المغربية في تصوير (رضى الوالدين)
إنها الخصوصية المغربية أن يدعو الفقيه بعد ختم القرآن؛ لجميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، ويدعو مع أهل المقدس ويدعو مع غير المسلمين بالهداية ومع الخصوم بكف الأذى والتوبة.. 
إنها الخصوصية المغربية أن يخصص الفقيه دعاء للمرأة والنساء المجتمعات في جناح البيت الآخر.. ويخص اللاتي أشرفن على إعداد الطعام بالعتق من النار..
إنها الخصوصية المغربية أن يبعث المضيف بالأكل والعشاء لجميع جيران بيته الذين تعذر عليهم الحضور.. وأن تخصص موائد للأطفال الذين يلعبون في الزقاق.. إنها الخصوصية المغربية أن يخصص نصيب لحارس الحي وأحيانا لدورية الشرطة التي قدر الله أن تمر تلك الليلة بالقرب من البيت الذي يختم فيه القرآن.. 

 
6- لقد حضرت (ليلة ختم للقرآن) بعث صاحب البيت موائد عشاء لبعض الشباب الذين من عادتهم السهر في مكان منعزل في طرف الشارع!! و الذين عادة ينظر اليهم نظرة نقص واستبعاد؛ إن طعام القرآن وذكر الله لا يعرف الإقصاء!!
دائما إنها الخصوصية المغربية التي تعتقد أن طعاما يقرأ عليه كلام الله؛ تلفه الأنوار وتتنزل عليه البركات والتي تسع وتعم جميع الخلائق والأكوان..
إنها الخصوصية المغربية ياسادة؛  أن قدر لي حضور مجلس ختم للقرآن في بيت بجوار (برجي  التوأمين/ توين سنتر) بالدار البيضاء؛ أي في عمق مركز التجارة بالمملكة.. إنها "الحداثة المغربية" بعمق اخلاقي وروحاني..
إنها الخصوصية المغربية أن يخرج من السلكة فلان وقد صالح فلان وتعانقا ودعا معهما الفقيه (ولعنا الشيطان) بعد أن تخاصما في منافسة دنيوية سابقة!!.. 

 
7- إنها الخصوصية المغربية؛ أن أحضر يوما؛ "سلكة" وكان من بيننا شاب فرنسي الجنسية؛ حديث عهد بالإسلام.. وعندما بدأ القراء الفقهاء يرتلون القرآن بطريقتهم السوسية الجميلة والأخاذة؛ قام الشاب الفرنسي فجأة؛ وجلس بينهم! يستمتع بقراءتهم في خشوع وتذلل وإعجاب..
سألت عن أمره بعد نهاية المجلس.. فقيل لي أن سبب إسلامه "سماعه" من نافذة بيته في العاصمة باريس بعض المغاربة يقرأون القرآن جماعة بالطريقة المغربية!! 

 
8- إنها الخصوصية المغربية التي جرى بها عمل أجدادنا لقرون.. نقحها العقل المغربي الجمعي وسقلتها الممارسة المعرفية والاجتماعية والحضارية؛ وطرزت بمفردات المحبة و التواضع وحسن الجوار ؛ لقد وجد جيلنا في هذا العرف؛ السكينة والطمأنينة وصلة الأرحام واحترام الفقيه وتوقير الجار.. شربنا في هذا العرف من معين الأخلاق والأدب و(الصواب).. تعلمنا منه و فيه خدمة الناس (مغسل اليدين المحمول) والتواضع أمام الضيوف.. أخذنا فيه دروسا في الصدقة والعطاء و(اتساع الخاطر)..
لقد سقينا فيه ومنه أخلاق محبة القرآن وأهل القرآن.. وانغرست فينا بسبب هذا العرف محبة سيدنا رسول الله وآل بيته الأطهار - ومنه سر التعلق الصوفي للمغاربة بالسلطان سبط النبي العدنان-  فمن خلال الترديد المتكرر لقصيدتي البردة والهمزية اللتان تعرضان علينا السيرة النبوية غضة وحية، نحيا شهودا و حقيقة في حضرة سيد الأنام..

 
9 - إنها الخصوصية المغربية؛ التي يجتهد البعض ليحاربها ويبخسها وينتقصها؛ ويبدعها ويبدعنا بسبب عشقنا لها..
ولا يدري المسكين؛ أنها هي ذاتنا وحقيقتنا وهويتنا.. و"نحن هي"؛ و "هي نحن" حللنا جسدا..

 
10- و في الختام.. سوف أجيب  من يسأل عن علاقتنا بخصوصيتنا المغربية بتجلياتها في قراءة القرآن جماعة وذكر الله جماعة وجهرا.. والاحتفالية بمحبة سيدنا رسول الله مدحا وتغنيا وإنشادا.. أجيب (السائل التائه) بهذه الأبيات؛ التي يتغنى بها المنشدون في زوايا المملكة الشريفة.. وفيها إشارات عميقة للعلاقة الروحية التي تجمع بيننا وبين هويتنا.. لمن فتح الله عليه في التقاط الإشارات:
أيها العاشق معنى حسننا //  مهرنا غال لمن يخطبنا
فافن إن شئت فناء سرمدا //  فالفنا يدني إلى ذاك الفنا
واخلع النعلين إن جئت إلى//  ذلك الحي؛ ففيه قدسنا
فإذا قيل لك ما تهوى؟ فقل // أنا من أهوى؛ ومن أهوى أنا 
فإذا أبصرتني أبصرته //  وإذا أبصرته أبصرتنا
عنصر الأنفاس فينا واحد //  وكذا الأجسام؛ جسم عمنا.