عنوان هذه المقالة، هو في الحقيقة، الآية رقم 30 من سورة البقرة. والآية كاملة هي كالتالي: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ".
أولا وقبل كل شيء، دعوني أقول لكم كيف أُدرِكُ، أنا شخصيا، ما استخلِصُه من تحليل هذه الآية الكريمة. وما أستخلصُه، أنا شخصيا، من تحليل هذه الآية، سيكون مختلفا عن ما ورد في التَّفاسير التقليدية التي، غالبا، ما تتِم في إطارٍ ديني محض. وهذا شيءٌ مقبول، ما دامت الخلفيات الفكرية، الثقافية، المعرفية والعلمية تختلف زماناً ومكاناً.
يقول، سبحانه وتعالى، في هذه الآية، "إِنِّي جَاعِلٌ" ولم يقل إني خالقٌ. وهناك فرقٌ بين "خَلَقَ" و"جَعَلَ". "خَلَقَ" تعني، بالنسبة لله، أنشأ من عدمٍ أو من شيءٍ آخر. كأن يقول "كن، فيكون" أو "خلق الإنسانَ من طين". أما "جَعَلَ"، فتعني أن الشيءَ المجعولَ موجودٌ قبل حدوث فعل "جَعَلَ". فلمّا أقول "جعلتُ الكتابَ في المِحفظة"، فالكتابُ كان موجودا قبل أن أضعه في المحفظة. وحين يقول، سبحانه وتعالى : "وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (النحل، 78). في هذه الآية، اللهُ، سبحانه وتعالى، لا يمكن أن يخاطبَ الناسَ عن السمع والأبصار والأفئدة وهم غير موجودين.
إذن، في غالب الأحيان، عندما يَرِدُ فعل "جَعَلَ"، في آيات القرآن الكريم، فالشيءُ المجعول يكون موجودا قبل حدوث فعل "جَعَلَ". فكيف سينعكس هذا التَّوضيحُ على تحليل الآية التي هي عنوان هذه المقالة؟
فحينما يقول، سبحانه وتعالى : "إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً"، فهذا يعني، حسب ما وضَّحتُه أعلاه، أن هذا الخليفةَ كان موجودا على شكل بشرٍ غير عاقل. و"خَلِيفَةً" تعني أنه سوَّاه ونفخ فيه من روحه ليكون عاقلاً و واعياً. وهنا، لا بدَّ من التذكير بأن الإنسان غير العاقل كان موجودا في عدَّة مناطق من الأرض. وما يجعله بشرا غير عاقلٍ هو حجم دماغه الذي كان أصغر من حجم دماغ الإنسان العاقل Homo Sapiens. من بين البشر غير العاقل، أذكرُ الأنواعَ التالية:australopithèque، pithécanthrope paranthrope… وهذه الأنواع كلها لها صفات إنسان كاستقامة الجسد، لكن غير عاقل.
في هذه الحالة، كلمة "آدمُ" ليست اسمَ شخصٍ أو إنسان، لكن اسم نوعٍ جديدٍ من البشر، لكن، البشر العاقل Homo Sapiens. أما "خَلِيفَةً"، لا أظن أن المقصود منها هو خليفة الله. لماذا؟
لأن الله، سبحانه وتعالى، يقول : "فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ" (الشورى، 11). "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ" تعني لا مثيلَ له. ويقول أيضا : "وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ" (الإخلاص، 4)، أي لا يُشبِهُه أحد.
إذن، "خَلِيفَةً" تعني بشرا عاقلين يخْلِفون بعضُهم بعضا، أي يتناسلون ويتكاثرون. ولهذا، يُطلَق عليهم "ذريةَ آدم". وقد تعني "خَلِيفَةً" بشرا منفوخا فيه من الروح الإلهية ليكون عاقلاً و واعِياً. فماذا كان ردُّ الملائكة لما قال لهم، سبحانه وتعالى : "إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً"؟
قال الملائكة: "أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ". لا أدري كيف عرف الملائكةُ أن بني آدم سيُفسدون في الأرض وسيتقاتلون لسفك الدماء. لكن ما هو مؤكَّدٌ، أن فعلي "يُفْسِدُ" و"يَسْفِكُ" مُصاغان في المضارع. وهذا دليلٌ على أن الفسادَ والسَّفكَ سيحدثان في القادم من الزمان؟ أي بعد انتشار ذرية آدم في الأرض. فبماذا ردَّ، سبحانه وتعالى، على تدخُّل الملائكة؟
قال : "إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ"، أي أعرف لماذا جعلتُ هذا النوعَ من البشر العاقل خلفاءَ، بعضُهم لبعضٍ وسوَّيتُهم ونفختُ فيهم من روحي. والتَّسوية والنفخ من الروح الإلهية لم يقُم بهما، سبحانه وتعالى، عبثاً. بل من وراء "إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً"، غايةٌ تتمثَّل في إعمار الأرض.
ومن أجل إعمارِ الأرض، الله، سبحانه وتعالى، "عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا…" (البقرة، 31). و"عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا"، فيها وجهان : إما الأسماء كلها على امتداد الزمان والمكان وإما الأسماء التي سيحتاجها آدم، في حياته اليومية والتي سيُعلِّمها لذريته حينما يقومون بإعمار الأرض. إذ لا يُعقل أن يُعلِّمَ اللهُ، سبحانه وتعالى، آدمَ أسماءً لن يجدَ مقابلا لها في حياته اليومية.
أما إذا كان المقصود من "وعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا"، هو تعليمٌ على امتداد الزمان والمكان، فالإنسان لم يتوقَّف عن إغناء معارفه في شتى مجالات العلوم الدنيوية منذ أن جعله الله خليفةً وجعل من ذرياته شعوبا وقبائل تتناسب وتتصاهر إلى أن وصل تِعدادُهم اليوم إلى ما يزيد عن 8 مليار نسمة.
أما الرصيد المعرفي الذي توصلت إليه البشريةُ جمعاء، بفضل الهِبة الإلهية المتمثِّلة في العقل، فحدِّث ولا حرج. لكن حجمَ هذه المعارف يبقى دائما محدودا طبقا لما قاله، سبحانه وتعالى، في قرآنه الكريم، من خلال هاتين الآيتين : "…وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا" (الإسراء، 85). وكذلك : "...وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ…" (البقرة، 255).
والآيتان تبيِّنان أن علمَ الله واسع ولامحدود، بينما الآية رقم 255 من سورة البقرة تبيِّن أن اللهَ، سبحانه وتعالى، لا يُتِيح من علمه للإنسان العاقل إلا ما يشاء، أي ما يريد. فهل هناك حكمةٌ من إتاحةِ بعضٍ من علم الله للإنسان العاقل؟
بدون أدنى شكٍّ أن هناك حكمةً من تزويد الإنسان العاقل بشيءٍ من علم الله حسب إرادته، سبحانه وتعالى. فأين تتجلَّى هذه الحكمة؟
تتجلَّى هذه الحكمة في كونه، سبحانه وتعالى، أوصى الإنسانَ العاقلَ بإعمار الأرض. وهذا الإعمار، بدون أدنى شك، تحقَّقَ ولا يزال يتحقق في عصرنا هذا، بفضل عاملين أساسيين، هما : التَّسخير وعقل الإنسان العاقل. وهو ما دفعني لأقولَ في بعض مقالاتي إن "اللهَ يُسخِّر والإنسان يفكِّر".
لكن ما يُثيرُ الانتباهَ أن إعمارَ الأرض لم يتحقَّق دفعةً واحدةً. بل تحقَّق ويتحقَّق بالتَّدريج، أي حسب خطوات متتالية وتدريجية. وهذا يعني أن إعمارَ الأرض سايرَ تطوُّرَ فكر الإنسان العاقل. وتطوُّر فكر الإنسان العاقل رهينٌ بما يُتيحُه، سبحانه وتعالى، من علمِه للناس.
ولهذا، فإعمارُ الأرض الذي كان سائدا في عهد الإنسان البدائي (غير العاقل)، ليس هو الإعمارُ الذي ساد في عهد الأقوام الغابرة أو في عهد الحضارات القديمة (الصينية، الهندوسية، المصرية، اليونانية، البيزنطية، الرومانية…) أو في عهد الحضارة الإسلامية أو في عهد الحضارات الحالية. فرقٌ شاسعٌ بين إعمار وآخر. لماذا؟
لأن إعمارَ الأرض يتطوَّرُ مع تطوُّرِ فكر الإنسان. فكلما خطا فكر الإنسان خطواتٍ إلى الأمام، كلما تطوَّر إعمارُ الأرض شكلا ومضمونا. وهو ما نلاحظه، في عصرنا الحاضر، حيث إعمارُ الأرض بلغ أوجَه إلى أن أصبحت بعضُ تجلياتِه مُضرة ليس فقط للإنسان العاقل، بل لكوكب الأرض برُمَّته.
وهذا يعني أن ما أتاحه اللهُ، سبحانه وتعالى، من علمه للإنسان العاقل، لم يُستعمل حسب ما لهذا العلم من حدود.