الاثنين 25 نوفمبر 2024
فن وثقافة

محمد نور الدين أفاية.. في التحرر من "اللاشعور" الاستعماري

محمد نور الدين أفاية.. في التحرر من "اللاشعور" الاستعماري المفكر الزيمبابوي سَبيلو ندلوفو- غاتشيني، مع صورتي غلافين من كتبه، والكاتب والمفكر نور الدين أفاية

إذا كانت الحداثة بَنَت ثقافة تساؤلية، وأخضعت الاعتقادات، والمعارف، والمبادئ، والمؤسسات للنقد، فقد ارتُكبت باسمها جرائم وفظاعات؛ وشكَّل الاستعمار أحد أبرز لحظات إرادة القوة الوحشية للغرب "الحديث" والمعاصر. ولعل النخبة الإفريقية، اليوم، جعلت من نقد التجليات العنيفة والمتغطرسة للحداثة مُهمة دائمة، سيما وأن الكائن الإفريقي تعرَّض لاعتداءات على جسده، ووجوده، وكرامته، وإنسانيته وأرضه، وولَّدت لديه رضَّات عميقة يتعين على الفكر استنطاق دلالاتها، وتشخيصها، وتحمُّل المسؤولية الثقافية للمساهمة في التحرر منها، واقتراح آفاق مستقبل من أجل الشباب، انطلاقا من مقاربات داخلية من أجل تنمية إدماجية، ومُنصفة.

وباسم حتْمية تاريخية وكوْنية خلقهما الغرب وروَّج لهما، وضَع الخطاب الاستعماري نفسه كمركز للإنسانية والتقدم والعقلانية؛ غير أن تطور الأفكار النقدية والممارسات المعرفية خلخل محاولات اختزال "فترة ما بعد الاستعمار" في نطاقها الزمني الكرونولوجي، ساهم في إنتاج هذه الأفكار بعض الباحثين الأوروبيين أنفسهم، بالإضافة إلى مفكرين جدد من آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية والهند. ومن أجل الاضطلاع بهذا العمل الرامي إلى إعادة بناء الذات، كان لزاما على المفكرين الأفارقة القيام بنقد مزدوج: أولا كشف العنف الجسدي والاقتصادي والسياسي الذي قام به الاستعمار؛ وثانيا التحرر من العنف الإبستمولوجي الذي تركه الإنتاج العلمي "الكولونيالي".

هَيْمنت أسئلة "أفْرَقَنة" الهوية والتراث، والتحرر من سيطرة تاريخ الفلسفة الغربية، ونزع تركة الاستعمار عن الوعي واللاوعي الإفريقي، على المناقشات ذات الانشغالات الفلسفية منذ سبعينيات القرن الماضي إلى نهايته؛ لدرجة لم تعد لدى ممثلي الجيل الجديد من الفلاسفة الأفارقة أية عقدة في تناول الأطروحات الفلسفية الدائرة في الأوساط الفلسفية العالمية ونقدها؛ كما قام بذلك سليمان بشير ديان Soulaymane Bachir Diagne، وكوام آنطوني أبياه Kwame Anthony Appiah، وسَبيلو ندلوفو غاتشيني Sabelo Ndlovu-Gatsheni ، وكاكو نوبوكبو، Kako Nubukpo، وأشيل مبيمبي Achille Mbembe، وآخرون.

ويهمنا أن نقف، باقتضاب شديد، عند أهم أفكار المفكر الزيمبابوي "سَبيلو ندلوفو- غاتشيني" Sabelo Ndlovu-Gatsheni، الذي يعتبر أن مفاهيم ما بعد الاستعمار، والاستعمار الجديد تتداخل، بشكل كبير، وتتشابك في العالم المعاصر، وخصوصا في "العوالم الإفريقية". ويرى أنه من المستحيل التفكير أو ادعاء "التحرر" نهائيا من الاستعمار؛ لأن نزع الاستعمار من القارة الإفريقية أسطورة، بحكم أن الاستقلالات لم تضع حدًّا لهيمنة الغرب؛ بل هناك، على العكس من ذلك، استمرارية لما يسميه "الاستعمارية" colonialité، أو القابلية للاستعمار. ويتمثل السؤال الكبير، في تصوره، في كيفية "انتزاع" الشعوب التي كانت مُستعمَرة من هذه الاستعمارية، التي استمرت على الرغم من نهاية الاستعمار المباشر، لكونها بقيت متجذرة في العقول، وفي أنماط العيش، وفي اللغات، وفي الأحلام، وفي مقولات الفكر. لقد أنتجت، وما تزال، مختلف أشكال الاستلاب بواسطة المدرسة والثانوية والكنيسة والجامعة والإعلام، وهي مواقع تعمل، بقوة، على إعادة إنتاج الاستعمارية في إفريقيا.

أما ما ينعته غاتشيني بنزع الاستعمارية décolonialité، فيتعين أن تتأسس على ثلاثة شروط:

يتعلق الشرط الأول بالتحرر من استعمارية السلطة La colonialité du pouvoir ، وهو فعل عام يساعد على البحث في الطريقة التي عملت "السياسة الشمولية" على بناء وتكوين ذاتها داخل بنية موازية غير متماثلة asymétrique للسلطة العصرية، حيث تمّ تقسيم العالم إلى "منطقة وجود" zone de l’être ، ومنطقة لاوجود zone de non être؛ كما يساعد هذا الفعل على معرفة كيف استولت الحداثة على ثمار التقدم والحضارة والتحديث والتنمية لصالح العالم الأورو-أمريكي، الذي يُعتبر "منطقة الوجود"، وكيف فرض هذا العالم تبادلا غير متكافئ واستعْبادي، بفضل سياسة استعمارية جديدة في العالم غير الأورو-أمريكي، الذي يشكل "منطقة اللاوجود".

أما الشرط الثاني فيَهمُّ التخلص من "استعمارية المعرفة" colonialité du savoir. ذلك أن الدراسات الإفريقية غالبا ما تهمل القيام بدراسات جدِّية حول أصول المعرفة وأسسها، كما أنتجها الغرب؛ ونادرا ما تتساءل عن استراتيجيات استخدام instrumentalisation المعرفة من طرف الاستعمار الجديد. والنتيجة هي أن إفريقيا وجدت نفسها أمام زحمة من المعارف "غير المفيدة" وغير المطابقة لواقع شعوبها، بحيث تُشوش عليها؛ بل وتمنعها من إنجاز استقلالها وتحطّ، بذلك، من قدرات الأفراد والجماعات على تحمّل المسؤولية في إطلاق مبادرات التعاون البيْنِي.

في حين أن الشرط الثالث فينعته بالحاجة الحيوية إلى التحرر من "استعمارية الوجود" colonialité de l’être . ويعتبر "غاتشيني" أن الأفق الأونطولوجي الذي فتحه ديكارت بتشكيل مفهوم الذاتية بتأكيده على الكوجيطو (أنا أفكر؛ إذن أنا موجود)، عملت القوى الغربية على تغييره إلى قاعدة دائمة يمكن صياغتها كالتالي: "أنا أغزو، إذن أنا موجود". وقد كانت هذه القاعدة وراء كل الاستراتيجيات التي أنتجت المستعمِر والمستعمَر، بتكوين معادلة دائمة ما بين الذاتية والوجود، وإن تغيرت بعض مظاهرها.

إن الإنسية الإفريقية، في نظر ندلوفو غاتشيني تجد نفسها مُساءَلة باعتبارها عملية تُكرس ثالوث "التشييئ/ الاستلاب/ التسليع" الذي يتعرض له الأفارقة. لذلك فإن إحدى واجهات النضال الدائم في إفريقيا يجب أن تركّز على مقاومة عملية التشييئ، والخروج من النزعة المتمركزة على أوروبا، والتبرم من الفضاءات الأكاديمية كما أسس لها الأوروبيون. من هنا الحاجة إلى تحريك الحدود والهوامش واستثمارها، وإدانة مختلف أشكال العنف، سواء كان ماديا، نفسيا أو معرفيا، والتفكير في مفاهيم وقواعد ثقافية جديدة تؤسس لإنسية تقوم على الإنصاف والعدالة الاجتماعية والتعاون البَيْني، كما يقول "غاتشيني" في كتابه: Coloniality and power in postcolonial Africa, Myths of decolonisation، الذي أصدره بدكار سنة 2013.

تندرج كتابات سبيلو ندلوفو-غاتشيني في إطار الأعمال الفكرية التي تدعو، بقوة، إلى إعادة تقييم الإنتاج العلمي والفكري الذي تناول إفريقيا كموضوع للبحث والتفكير؛ وهو إنتاج همَّ فترة ما قبل الاستعمار، ومرحلة الاستقلال، ويهمُّ وضعيات ما بعد الاستعمار، كما يشمل إعادة النظر في أنماط البحث التي تناولت مسلسل "التحديث" ورهانات التنمية؛ خصوصا وأن الاستعمارية colonialité ظاهرة عميقة تمتد إلى أنظمة الفكر، والبنيات الاجتماعية، والعولمة الكاسحة للوجدان والمتخيل. من هنا سعي الفكر الديكولونيالي décolonial إلى بناء أشكال المقاومة الجديدة للتخلص مما هو استعماري في تعبيراته الكثيفة والمعقدة واللاواعية، حتى ولو كان ثمة فهم حاد بصعوبات الانفكاك من الترِكة التي خلفها الاستعمار، الذي ما يزال يحرص على إدامتها بطرق مختلفة.