هناك فئة من المخرجين المغاربة تميزوا رغم قلة أعمالهم، واستطاعوا حفر أسمائهم داخل المشهد السينمائي المغربي، بل منهم من أثر في المسار السينمائي بفيلم أو فيلمين فقط. وهذا راجع لقدرة هذه الأسماء على فهم الذائقة السينمائية للمتلقي، ووعيهم بها وبناء تصورات محددة لها، وبالتالي صياغتها صياغة فنية تعكس روح هذا المتلقي وتستجيب لذائقته دون تسرع.
وهذا ليس استثناء، أو شيئا جديدا في السينما، بل هناك أسماء أخرى عالمية وعربية لم تترك في ربرتوارها الفيلمي سوى عمل واحد اكتسحت به السينما العالمية وأصبح اسمها مرفوقا بأحسن وأشهر المخرجين في تاريخ هذه السينما، وحتى لا نذهب بعيدا نستحضر على سبيل المثال المخرج المصري شادي عبد السلام وفيلمه الروائي الوحيد "المومياء".
في السينما المغربية الأسماء على شاكلة شادي عبد السلام قليلة وقليلة جدا، ربما تعد على أصابع اليد الواحدة، وفي هذه الورقة سنأخذ إسما واحدا من هذه الأسماء، وهو المخرج محمد العسلي، صحيح أن أفلامه لم تحقق نفس الإنتشار العالمي الذي حققه فيلم "المومياء"، لكن يكفي أنه ولج تاريخ السينما المغربية من بابه الواسع من أول فيلم أنجزه.
تأثر محمد العسلي بالسينما الإيطالية الواقعية، وظهر ذلك جليا في أول فيلم له "فوق الدار البيضاء الملائكة لا تحلق"، حيث جسد الواقع وإكراهاته من خلال صور اجتماعية مستفزة، موضوع الشريط (الهجرة من البادية إلى المدينة) تم تداوله في العديد من الأفلام لكن طريقة الإخراج والرؤية الجمالية والفنية للمخرج، أضفت على الفيلم مسحة متفردة أخرجته من دائرة المتداول والمألوف، وقدمته للجمهور في حلة جديدة لم يألفها من قبل. إضافة إلى تفوق المخرج في شد انتباه المتلقي عبر دمج ثلاث قصص في موضوع واحد، محاولة منه إعطاء صورة واضحة عن واقع المجتمع المغربي، هذا المجتمع الذي يعاني من ترهل اجتماعي خطير، مجتمع يعيش بقناع زائف. اختياره لمدينة الدار البيضاء مسرحا لأحداث الشريط، يعتبر اختيارا صائبا لأنها ببساطة تجمع المغرب بكل مكوناته.
أما فيلمه "أياد خشنة" فيعتبر أيضا من الأفلام المميزة، تلك التي تركت بصمتها واضحة على مسار السينما المغربية، فيلم يتحدث سينما حقيقية، إنحاز للواقع المغربي وصاغ منه عوالم تتغيى الإستئناس بروح المجتمع وخيباته. استغل نُدوبه بذكاء، تلك الندوب المتراكمة بين حواشيه، فصنع منها مركز الفيلم ونواته، قصته دراما اجتماعية بامتياز، بسيطة فكرتها، لا مجال فيها للتأويل، فكل أحداثها شفافة وواضحة ومفهومة، أما شخوصه فمتمرّدون ورغم ذلك تصنعهم الأحداث ولا يصنعونها، بل تجبرهم على اعتناق توجهاتها، وتتبع مساراتها، لا تتحقق أمانيهم بسهولة ولا بضربة حظ، وهنا تكمن المفارقة ويتميز العسلي، ونكتشف معه مجددا أسلوبه المتأثر بالسينما الايطالية الواقعية.
يأتي اختياره لمدينة الدار البيضاء في هذا الفيلم كما في فيلمه الأول ليؤكد لنا رغبته في ترسيم حدوده المكانية، وجعل هذه المدينة أيقونة أعماله لما تحتويه من حمولة اجتماعية متشعبة تمثل المجتمع المغربي بكل تناقضاته. أما اختيار شخصيات الفيلم، (محمد البسطاوي ومفتاح الخير وهدى الريحاني بالإضافة إلى عائشة مهماه) فكان لها دورا مهما في توازن تركيبته إذ انصهروا بهدوء غير مصطنع في أحداثه وأثثوا مشاهده بإتقان.
لم يتجه محمد العسلي للإخراج السينمائي مباشرة بعد تخرجه، كما يفعل البعض، بل انتظر سنين طويلة حتى يكون مولوده كاملا متكاملا بدون عملية قيصرية قد تسبب له جروحا ترافقه مدى حياته الفنية. في حوار سابق أجرته معه جريدة الحياة اللندنية حول أسباب هذا التأخير يقول محمد العسلي: "الأسباب واضحة وتكمن في غياب إمكان الإنتاج السينمائي العربي. نحن ننتج أيتاماً، فأنا نفسي كنت يتيماً حتى كونت فيلمي الأول. لقد انتظرت خمسة وعشرين عاماً لأن الإنتاج السينمائي في العالم ليس بريئاً، فهناك من يبحث حتى يكرّس الصورة السلبية التي نحن عليها الآن، وطبعاً أنا رفضت كل هذه السنين أن أساهم في هذا الوضع غير السليم الذي لا يمثل لا ثقافتي ولا حضارتي ولا انتمائي، وهذا تطلّب مني المقاومة كل هذه المدّة حتى أؤسس أرضية إنتاجية مستقلة تنتج صورة تشبهني وتشبه ثقافتي وتتمثل في (فوق الدار البيضاء الملائكة لا تحلق) ". (جريدة الحياة 2005-03-18).
ازداد محمد العسلي سنة 1957 في الدار البيضاء، ليتركها في سن الثامنة عشرة حيث هجرها إلى مدينة ميلانو الإيطالية لدراسة السينما. درس العسلي تقنيات المونتاج والاخراج، وبعد تخرجه عمل مباشرة في الحقل السينمائي الايطالي كمساعد مصور ثم مساعد مخرج، بعد ذلك تعاطى للإنتاج لينتج العديد من الأفلام الوثائقي والتلفزية، ومساهمة منه في تشجيع السينما المغربية والنهوض بها أكاديميا أسس أستوديوهات (كان زمان) في مدينة ورززات وألحق بها مركزا للتدريب السينمائي.
محمد العسلي لم يستمر للأسف في ممارسة السينما، بل ترك لهم الجمل بما حمل وانسحب في صمت، بعدما قدم إلى المغرب محملا بالكثير من الأحلام السينمائية، والقليل من المكر، والدهاء، والنفاق والتملق كما البعض، وسواء اتفقنا مع أفكاره وآرائه أم لم نتفق، يبقى انسحابه واعتزاله خسارة للسينما المغربية.