يتبنى "داعش" المسار الإسلامي الأول، فيعامل كل ما سبقه على أنه جاهلية؛ يلغي بالقتل أو المحو أو السبي. في الأراضي التي سقطت حتى الآن بين يديه، يلغي قوانينها وعاداتها وأقلياتها ووطنيتها وحدودها، يلغي حياتها وذاكرتها الحيّة. فيحيلها إلى المصير نفسه الذي عرفته الجزيرة العربية بعد الإسلام، أي الإلغاء التام والنسيان. كل ما يمكن تذكره عن تلك المرحلة التي ألقيت في نار هذا النسيان هو الشر بعينه، يمنع عنه التنقيب والدراسة، إلا بنفَس أصحاب السلطان الإسلامي الجديد.
هكذا يريد "داعش" أن نكون بعد سنوات قليلة من حكم دولته: أن يبدأ التاريخ عندنا يوم أعلن البغدادي عن قيامها، وكل ما قبله، جاهلية، يُمحى بقوة السلاح، كل حياتنا القريبة جغرافيتنا جيراننا بيوتنا... فيصادر بذلك مستقبلنا بختم أحمر، وندخل طوراً جديداً من تاريخنا، يطوف فيه الزمن بين ماضٍ مغلق مثل علبة سوداء من الحديد، ومستقبل يشبه تلك الجبال القاحلة المحاصرة، المتروكة لرحمة مروحيات إنقاذ ضئيلة أمام توراتية جلجلة آلاف التائهين في جرودها.
ذاك هو تصور "داعش" لوقتنا، وهو لم يخترع شيئاً عندما تبناه، ولا تجاوز حدود المقبول سياسياً بين أطراف الإسلام السياسي "المعتدل"، الذين أسسوا للتنظيمات والرؤى الإسلامية المعاصرة، أي "الإخوان المسلمين" المصريين؛ ليس هؤلاء "المعتدلين" على اختلاف شديد مع "داعش" حول هذه المعاملة الكاسرة مع الزمن الحاضر. المنظّر الأكبر لتنظيم "الإخوان"، الذي سميت تيارات إخوانية باسمه، هو سيد قطب؛ والرجل لم يقلْ شيئاً يختلف عما يطبقه الآن "داعش" على الأراضي التي استولى عليها. أقام قطب حجته على قاعدتين جوهريتين بقيتا ملاصقتين لكيان الإخوان، ولو بدرجات، وبحسب وتيرة مواجهتهم لسلطة بلادهم؛ قاعدتان لعبتا، طوال تاريخ "الإخوان" مع السلطة دور الإغراء السياسي الأقوى، ينجرّون إليه كلما اشتدوا، كلما بلغتهم طاقات شبابهم، وهي وحدها القادرة على تحمُّل مشقات الإغراء.
قال قطب، أولاً، إن المجتمع الذي نعيش فيه لم يقِمْ "حاكمية الله"، أي أنه لا يطبق الشريعة الإسلامية؛ الناس فيه غائصون في الرذائل والردة والكفر، لذلك فهو مجتمع الشر المطلق؛ إنه المجتمع الجاهلي الكافر الذي لا يستحق غير الفناء. هكذا وضعت على السكة القاعدة الثانية، أي التكفير، التي تعتمد عليها فكرة الجاهلية: التكفير يدعم "الجاهلية"، والاثنان تقوم عليهما تلك المجتمعات المضادة التي بناها الإخوان المسلمون المصريون وغير المصريين: مجتمعات مغلقة على نفسها وعلى إيمانها، شبه سرية، تتزاوج في ما بينها، تنمي ثرواتها في ما بينها، تعلم أفرادها، تسيطر على اجتماعيتهم وتنظمها، كما تنظم ولادة أبنائهم ومماتهم... المجتمع الإخواني المضاد بني على أساس فكرة تكفير المجتمع الجاهلي الذي لم يقم نظام "حاكمية الله".
الآن، أن لا تكون تجربة "الإخوان" المسلمين المصريين قد بلغت نتيجتها المنطقية بالاستيلاء المديد على السلطة، فلا تعمِّر أكثر من سنة واحدة في الحكم، يرتكب فيها قادتها أنواع الحماقات التي أسقطتهم ورمتهم في السجون، فهذا لا يفرقهم بشيء عن "داعش" سوى بدرجة التمكن والتنظيم واليقظة. وربما أيضا، بالطريقة التي وصلوا بها إلى السلطة، أي انتخابات نزيهة، لا بغزو مسلح كما حصل مع "داعش". ولكن في العمق، الفكرة واحدة، ومآلها واحد، إن سرت بالمجرى الذي رسمه لها أصحابها.
ماذا نستنتج من ذلك؟ إن واحدة من قواعد التفكير الداعشي، أي محو الذاكرة القريبة عبر التكفير والتجهيل، ليست تماما بدعة داعشية: هي تستمد عراقتها من كونها طبقت بعد الدعوة الإسلامية مباشرة، وبقيت على قيد الحياة من خلال كل أشكال الحكم ومعارضته، حملت شعلتها اليوم كل الحركات الإسلامية التي تأسست بعد سقوط الخلافة الإسلامية العثمانية. ولا فرق بين حركة إسلامية وأخرى إلا بالأسلوب والسياقات وأنواع الغلَبة.
ولكن مهلاً: لا الإسلام ولا الإسلاميون يحتكرون هذا النمط من تسيير شؤون التغيرات: بالأمس القريب كان الشيوعيون، الروس والصينيون، يلقون بحجاب أسود قاتم على تاريخ بلادهم السابق عليهم، لينعتوه بأبشع الأوصاف، ليقولوا بأن إلغاءه من مصلحة الشعوب التي ستبني معهم جنة العدل والحرية. فكانت النتيجة، بعد انهيار وهمهم، وتكشف الجرائم التي ارتكبوها، بالملايين من الضحايا، من أجل تحقيق هذا الحلم... أن عادت تلك الذاكرة من الأبواب التي أُغلقت بالذات. وقد يحصل الأمر نفسه مع الإسلاميين؛ قد يحكمون عقوداً، ولكنهم في النهاية سوف يسقطون سقوطا مروعا، أين منه سقوط الشيوعيين، ويتركون لنا ذاكرة نداويها من جروحها الغائرة.
(عن جريدة "المدن" الإلكترونية اللبنانية، وباتفاق مع الكاتبة)