الأحد 10 نوفمبر 2024
سياسة

السفير الزاوي يرسم معالم ترويض البحر من طرف المغرب استراتيجيا

السفير الزاوي يرسم معالم ترويض البحر من طرف المغرب استراتيجيا

خص الكاتب عبد القادر الزاوي، سفير سابق للمغرب بكل من بالأردن والبحرين والإمارات العربية ومؤلف كتاب صدر له حديثا عن ثوراث الربيع العربي، موقع "أنفاس بريس" بمقالة على ضوء مضامين خطاب العرش، وتحديدا الجانب الذي ركز فيه الملك على الثروات المادية واللامادية. إذ تصدى الزاوي للبعد الاستراتجي للمغرب البحري، مشددا على أنه لا يكتسي أهمية استراتيجة فحسب، وإنما مصيرية تختلط فيها الأبعاد العسكرية والسياسية بأبعاد أخرى اقتصادية وتجارية وطاقية وغذائية وتشغيلية أيضا. مستخلصا بأن التحدي القائم يتمثل في العمل لكسب رهان الاستفادة القصوى والمثلى من الثروات المادية وغير المادية التي يختزنها المجال البحري المغربي، ورفع القيمة المضافة للرأسمال العام للبلاد وأصولها غير المرئية بغية أن يصبح المحيط الأطلسي بحرا للآمال والطموحات لا بحرا للظلمات. وفيما يلي النص الكامل لمقالة السفير عبد القادر الزاوي.


يحلو للمغاربة كثيرا التباهي بالموقع الجغرافي المتميز للمغرب الواقع في أقصى شمال غرب إفريقيا، وهو موقع متميز فعلا من ناحية الجغرافيا الطبيعية لتنوع تضاريسه الداخلية وأصالة عمقه الإفريقي وإطلالته الأوروبية وامتداد شواطئه على بحر ومحيط في آن واحد لمسافة تزيد عن الثلاثة آلاف كيلومتر.
غير أن هذا الموقع المثالي من الناحية الطبيعية يفرض على الصعيد الجيو استراتيجي تحديات كبيرة على المغرب، الذي يبدو مطوقا شمالا وشرقا وجنوبا، في زمن عادت فيه مفاهيم الجغرافيا السياسية إلى صدارة الاهتمام بعد أن كانت قد استكانت لفترة منذ نهاية الحرب الباردة. وأبرز تجليات هذه العودة في منطقتنا ما تتعرض له الحدود من سقوط الهيبة على يد قوى وجماعات لا تعترف بها وتريد تدميرها.
وبالنظرة الأولى نلاحظ أن في شمال المغرب توجد إسبانيا التي رغم كل نوايا حسن الجوار تتراوح العلاقات معها دائما بين العداوة والخصام والريبة والحذر باعتبارها تشكل تحديا حضاريا بالمعنى الشامل للكلمة يزداد حدة مع استمرار احتلال سبتة ومليلية والجزر المتاخمة لهما، والاحتكاكات التي تقع بشأنها كما حصل مع جزيرة ليلى، وذلك رغم تواري موضوعهما في الآونة الأخيرة عن الإثارة الإعلامية.
وفي الشرق لا تخفي الجزائر الرسمية عداءها المتجذر للوحدة الترابية للمغرب وتصر على استمرار القطيعة بإغلاق الحدود البرية منعا للتواصل الطبيعي الذي يفرضه التداخل التاريخي بين سكان المناطق الحدودية وقواعد الجيرة والأخوة والالتزامات المتبادلة بموجب معاهدة اتحاد دول المغرب العربي، ناهيك عن إدخال المنطقة في سباق تسلح يستنزف الطاقات والإمكانيات، ويهدرها بدون طائل على حساب ما تتطلبه تنمية الفضاء المغاربي لفائدة شعوبه.
وقد اتضح أن الإلحاح على فتح الحدود ومحاولة إحراج الجزائر بشأنه لا طائلة من ورائه. فقد امتنعت الجزائر عن ذلك في عز عزلتها في المنطقة إثر وقوفها موقفا اعتبر متواطئا ضد الثورة الليبية رغم أن حدودها مع المغرب هي الأكثر أمانا والمضبوطة أمنيا، ورغم طوق فك العزلة الذي مده المغرب لها للخروج من عزلتها آنذاك بحسن نية. ولذلك فلا أمل يرتجى على هذا الصعيد على الأقل في المدى المنظور وضمن المعطيات الراهنة.
أما في الجنوب، فإن المناوشـات التي يختلقهـا خصوم الوحدة الترابية للمغرب بين الفينة والأخرى، والاستقرار الذي ما يزال هشا وفي حاجة إلى الدعم في موريتانيا وهواجس التوجس المتبادلة معها كلها عوامل تمثل تحديا من نوع خاص يستنفر المزيد من الطاقات، ويتطلب يقظة متواصلة على كافة الأصعدة.
والواضح أن هنالك وعي بجسامة هذه التحديات وديمومتها على المدى المنظور إن لم نقل على المدى البعيد أيضا. يتمثل ذلك في المحاولات العديدة لتجاوز هذه التحديات من خلال مجموعة من السياسات والخطوات أهمها:
*السعي لبناء فضاء مغاربي يوجد في طور الاحتضار بعد أن فشل لحد الآن في أن يتحول إلى نظام إقليمي فعال ومنتج.
*المثابرة على تفعيل وتكثيف علاقات التعاون في مجالات جغرافية أوسع وفق آليات متعددة هي:
/ العضوية النشطة في النظام الإقليمي العربي الأشمل جامعة الدول العربية، والعلاقات الأكثر عمقا مع الدول العربية في الإطار الثنائي.
/ التعاطي المتنوع والواسع في إطار التفاعل مع الاتحاد الأوروبي، والتوجه لبناء سياسة الجوار الأكبر من الشراكة والأقل من العضوية.
/ الانخراط الجدي في معالجة قضايا منطقة الساحل وما تختزنه من تحديات إرهابية، استنادا على توجه لافت للتعامل المكثف مع عدد من دول القارة الإفريقية. توجه يبدو محدودا، وفي حاجة إلى أن يتحول سياسة ثابتة، وأن يطال جهات ودول أخرى غير معتادة، ولكنها ذات ثقل على صعيد القرارات الكبرى في القارة.
ولا شك أن هذه المساعي مجتمعة لم تسفر سوى عن نتائج محدودة لا يمكنها أن تقلل من ثقل مفاهيم الجغرافيا السياسية من حدود ومسافات وعبور أراض على الوضع الاستراتيجي للمغرب.
فهذه المساعي لا تختصر المسافات لتطوير التعاون الاقتصادي والتجاري مع دول جنوب الصحراء، ولا تسمح بتعميق العلاقات مع أوروبا بعيدا عن الإرادة الإسبانية وعن أراضي هذه الأخيرة كمجال عبور لتنقل البضائع والأشخاص، كما لا تستطيع إلغاء أهمية الحدود المغلقة للتواصل البري مع باقي المنظومة المغاربية وعبرها إلى المجال العربي الأوسع.
ولهـذا لا يبقى أمام المغـرب من واجهة جغرافية طبيعية لتجاوز كل محاولات حشره جيوستراتيجيا سوى البحر، الذي يتحكم وحده في معطياته، وعليه أن يعول على إمكانياته وطاقاته لترويضه بما يخدم مصالحه الجوهرية والمصيرية استنادا على رصيده التاريخي في ذلك، وبالاستعداد للاستفادة من التجارب الدولية العديدة باستجلاب الخبرة المطلوبة، وإبرام الشراكات ذات النفع المتبادل.
إن التاريخ البشري أظهر أن البحار تمثل الآفاق الأوسع للإنسانية، وأن الشعوب التي تتعامل معها أكثر تحررا وديناميكية كما يقول كارل شميدت، الذي يعزو هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى إلى تمكن الحلفاء من سد منافذها البحرية، ويرى أن تقدم الولايات المتحدة الأمريكية على الاتحاد السوفياتي السابق مرده إلى أن هذا الأخير كان قوة برية تتسم بالجمود والمحافظة غير قادر على مواجهة عدوه الأمريكي الذي طور قوة بحرية سمتها الأولى الحركة والحيوية على مدى المحيطات التي حول أحدها، وهو المحيط الأطلسي، إلى بحر داخلي تقريبا بعد إنشاء حلف الشمال الأطلسي، والسيطرة عليه من الضفتين.
وإذا كانت أفكار كارل شميدت قد ألهمت كثيرا قرارات الإدارات الأمريكية المتعاقبة على مدى القرن 20 الخاصة بتطوير قوات المارينز كقوة نخبة ضاربة في الجيش الأمريكي؛ فإنها استندت كثيرا على نظريات كل من ألفريد ماهان ونيكولاس سبيكمان اللذين ظلا يشددان على أهمية تنمية القوة البحرية الأمريكية لتطوير وتأمين تجارة بحرية عالمية كفيلة بأن تسرع تحقيق السيطرة الأمريكية على العالم من خلال إحكام السيادة على المحيط الأطلسي باعتباره الشريان الواصل بين القارات، مدللين على صحة استنتاجهما بالصراعات التي كان البحر الأبيض المتوسط مسرحا لها عبر التاريخ حيث كان من يسيطر على الملاحة فيه يحكم قبضته مباشرة على المساحات القارية المطلة عليه.
وبالنسبة لبلد كالمغرب فإن أهمية البحر ليست استراتيجية فحسب، وإنما مصيرية تختلط فيها الأبعاد العسكرية والسياسية بأبعاد أخرى اقتصادية وتجارية وطاقية وغذائية وتشغيلية أيضا.
فالمغرب البحري إذا جاز التعبير بمنطقته الاقتصادية الخالصة الممتدة تقريبا على طول إطلالته على المحيط الأطلسي إلى مسافة 200 ميل يمثل مساحة تناهز المليون كيلومتر مربع، أي أن مغرب البحر يفوق مساحة مغرب اليابسة.
تكمن الأهمية الطاقية للبحر في المغرب في أن معظم عمليات التنقيب عن البترول والغاز تجري في المياه الإقليمية على طول المحيط الأطلسي، والحديث يدور بين الفينة والأخرى عن إمكانيات واعدة في هذا المجال.
أما الأهمية الغذائية وإمكانية مضاعفة فرص العمل في مجال الصيد البحري فقد اتضح الوعي المسؤول بها من خلال مخطط هاليوتيس Halieutis الذي شدد في مستهل انطلاقه سنة 2009 على ضرورة رفع الناتج المحلي من قطاع الصيد البحري إلى 21,9 مليار درهم سنة 2020، مركزا على ثلاثة محاور استراتيجية هي:
*الديمومة حتى تظل ثروة البحر في متناول الأجيال المقبلة أيضا، ولا تستنزف سريعا.
*تطوير الجودة على صعيد الاستهلاك والمراقبة الصحية ليرتفع استهلاك المواطن المغربي للسمك من 11 كيلو سنويا في عام 2009 إلى 16 كيلو سنويا مع مطلع سنة 2020.
*التنافسية الهادفة إلى تعزيز مكانة المغرب كمصدر رئيسي للأسماك في العالم، في أفق أن يدر تصدير الثروة السمكية ما يزيد عن 3 مليار دولار سنويا، وأن يحدث مناصب شغل مباشرة تناهز 115 الف فرصة عمل سنة 2020.
ولا شك أن الاهتمام الأوروبي بإيعاز من إسبانيا بالتجديد المستمر لاتفاقيات الصيد البحري مع المغرب كلما انتهت أكبر دليل على حيوية الأبعاد الاقتصادية والتجارية والغذائية والتشغيلية لهذا القطاع لدى الجارة إسبانيا. ومن الواضح أن اهتمام دول أخرى بعيدة جغرافيا عن المغرب بالصيد في المياه المغربية كاليابان وروسيا واستعدادها لتطوير التعاون معه في هذا الميدان يؤكد مصداقية ما سبق.
وبطبيعة الحال؛ فإن استراتيجية شاملة للاستفادة من خيرات البحر في المغرب لتطوير قدرات البلاد وتعزيز مكانتها الاستراتيجية يجب أن تكون قضية وطنية بالدرجة الأولى لا ترتبط بحكومة مدة تسييرها للشأن العام محدودة بالزمن وعرضة للمزايدات الانتخابية، ومستغرقة في قضايا التسيير اليومي والمناوشات الحزبية.
إن المؤسسة الملكية بالدور المنوط بها دستوريا لضمان الاستقرار والأمن وتدبير الأبعاد الزمانية والمكانية الاستراتيجية للبلاد وحدها المؤهلة لقيادة عمل وطني شامل لاقتحام البحر والاستفادة منه استراتيجيا ومصيريا.
وقد أثبتت ذلك من خلال الدور الذي لعبته في إتمام مشروع ميناء طنجة المتوسط عندما ادعت الحكومة حينها ألا نية لها لإقامة مشروع بهذا الحجم وبهذا الاسم في الضفة المتوسطية. وها هو الميناء المتوسطي اليوم بالنقلة النوعية التي أحدثها إنجازه على صعيد التجارة الخارجية للبلاد، وتنقل البضائع والأشخاص واستدراج الاستثمارات الأجنبية المباشرة وغير المباشرة يؤكد بعد النظر المنوه عنه بعيدا عن البيروقراطية الحكومية.
وبديهي أن ترتكز أي استراتيجية وطنية في هذا الإطار على تدعيم البنيات التحتية البحرية من إحداث موانئ جديدة وتوسيع القائمة وتعزيزها تقنيا وبشريا، ما يستدعي تسريع التكوين الفني والمهني في هذا المجال لتأهيل العنصر البشري الكفء والفاعل. ولكنها تتطلب أيضا:
*تعزيز الأسطول التجاري البحري الذي يمكنه في المرحلة الأولى أن يلعب دورا كبيرا في عملية ارتياد الآفاق الإفريقية التي يريد المغرب من خلالها البرهنة على تبنيه سياسة خارجية غير منغلقة على مجالات تقليدية عرف بها. سياسة خارجية متجددة يراد لها أن تكون متحررة نسبيا من جاذبية الفضاء الأوروبي وإغراءات المال العربي.
وليس صدفة أن ارتياد العالم الإفريقي بدأ مع دول تقاسمنا الإطلالة على المحيط الأطلسي بدءا من السنغال وغينيا إلى ساحل العاج والغابون. ومن شأن تعزيز الأسطول التجاري المغربي ألا يجعل المبادلات التجارية المغربية مع هذه الدول وغيرها في غرب القارة رهينة العبور عبر موانئ أوروبية وتحت رحمة شركات أجنبية نقلا ومناولة.
*تعزيز القوات البحرية الملكية عددا وعدة لتستطيع عند الضرورة مواكبة الأسطول التجاري وتأمين السواحل والمنطقة الاقتصادية الخالصة، ناهيك عن ضمان الملاحة في مضيق جبل طارق ومواجهة مافيات تهريب البضائع والبشر. فرغم أن دور هذه القوات في حماية الوحدة الترابية لا يثار كثيرا في الإعلام، إلا أنها قامت بمبادرات طلائعية في هذا الصدد أكثر من مرة منعا لعمليات تسلل بحرية كانت تستهدف زعزعة الأمن في بعض مرافئ الجنوب؛ الأمر الذي يبين أهمية تطويرها وتوسيه مساهمتها في الاستراتيجية الدفاعية للبلاد.
إن ارتياد البحر وتطويعه يمثل التحدي القادم للمغاربة الذين ظلوا عبر التاريخ يهابونه، كما تشي بذلك تصميمات المدن العتيقة الموجودة على الساحل حيث معظمها يدير ظهره للبحر. ففي مدينة كالرباط بدل أن تقام مرافق سياحية وترفيهية على شواطئ البحر نجدها تحتضن مقبرة وسجنا (تم إغلاقه) وأحياء شعبية بعضها ذا طابع عشوائي يسيئ للبحر نفسه.
إن التحدي يتمثل في العمل لكسب رهان الاستفادة القصوى والمثلى من الثروات المادية وغير المادية التي يختزنها المجال البحري المغربي، ورفع القيمة المضافة للرأسمال العام للبلاد وأصولها غير المرئية بغية أن يصبح المحيط الأطلسي بحرا للآمال والطموحات لا بحرا للظلمات. فهل سنكون في مستوى التحدي؟.