Friday 18 July 2025
كتاب الرأي

صديق معنينو: مراكش الأخرى

صديق معنينو: مراكش الأخرى صديق معنينو
حين تدخل السوق التقليدي لمدينة مراكش، تجد نفسك وكأنك دخلت مغارة علي بابا... كل شيء متوفر، وكل التجار مستعدون لاستقبالك والترحيب بك بابتسامة لا تفارق محياهم. ومع مرور الوقت، تجد نفسك محملاً بأكياس وأغراض لم تكن تفكر في اقتنائها، بل تكتشف لاحقًا أنك لست بحاجة لها أساسًا. لكن الأجواء ساحرة، والتاجر المراكشي طيب، بشوش، صاحب لسان حلو، يبدأ بثمن مئة وينتهي بخمسين.
 
البهجة
تذكرت، وأنا أعيش هذه اللحظات، زياراتي لما يُعرف في المشرق بـ"البازار"... زرت مثل هذه الأسواق العتيقة في طهران، إسطنبول، دمشق، والقاهرة. لكل سوق من هذه الأسواق تاريخه، وأدواره في أزمنة الرخاء والشدّة. لكن سوق مراكش يبقى له طعم خاص، أو هكذا يخيّل إليّ. في المدينة العتيقة، تشعر أنك في قلب التاريخ؛ قرون من الزمن مرت على هذه الأزقة الضيقة، مئات الآلاف من الصناع والحرفيين والتجار مرّوا من هنا... عاشوا، أبدعوا، ورأوا الأسر الحاكمة تتعاقب، وفترات حكم عادلة وأخرى ظالمة.
 
كل هذا جعل من مراكش أرض "البهجة"، حيث يعيش سكانها على الكفاف والعفاف. وسط الزحام والضوضاء، ترى آلاف السياح يتزاحمون ويكتشفون، وتتردد في السوق لغات شتى يتبادلها التجار مع الزوار، يتخللها ضحك، ومساومات، واستقبال حار.
 
همس... وفاتورة
على بعد مئات قليلة من الأمتار، حجزت مكانًا لتناول العشاء. كانت الحرارة مرتفعة، فلم أستغرب أن أجد مرتادي المطعم شبه عراة. هذا المطعم لا مثيل له في العاصمة: أضواء خافتة، موسيقى ناعمة، ديكور يجمع بين الأناقة والدفء، ومرتادون من نوع خاص، لغة ولباسًا وجمالاً.
 
استقبلتنا شابة عشرينية بابتسامة خجولة، بلباس فضفاض يوحي بجسم نحيف، وأخذتنا، أنا وزوجتي، إلى طاولة على يسار القاعة. بدا لي أن دخول هذا المكان يحتاج إلى "فيزا شينغن". الناس هنا لا يتحدثون بل يهمسون، لا يأكلون بل يتذوقون. الصحون كبيرة، لكن ما تحتويه قليل... وإن كان لذيذًا.
 
اخترت طبقًا بدا لي غريبًا دون أن أفهمه جيدًا، فالمضيفة شرحت بلائحة أطباق تحتاج إلى شهادة جامعية، وربما إتقان عدة لغات لفهمها. الملاحظة الأهم أن الأسعار غير مذكورة، مما يجعلك تنتظر لحظة الفاتورة بقلق. الزبائن هنا لا يهتمون بالأثمان، بل بالاستمتاع والهمس واللباس والجمال. عالم مختلف تمامًا عن السوق التقليدي وإنفاق بضع دريهمات... لم أميز بالضوء الخافت ما أكلته، لكنني تذكرت جيدًا أرقام الفاتورة... حفظكم الله من مثلها.
 
الطنجية المراكشية
في ساحة جامع الفناء، اعتدت تناول عصير الليمون، ثم بعد جولة قصيرة في المدينة، أطلب "زلافة بوبوش"... وربما اثنتين. تلك الليلة، قررت أن يكون عشائي "الطنجية المراكشية". ورغم زيارتي المتكررة لمدينة "سبعة رجال"، لم يسبق لي أن تذوقت هذه الوجبة التقليدية.
 
اخترت مطعماً في الطابق الأول، يطل على جامع الفناء، أغرب ساحة عمومية في العالم... فيها رواة وحكواتيون، سحرة، ثعابين، مقاهٍ، مطاعم، متسولون، باعة متجولون، فضوليون، سياح، ومجاذيب. مسرح مفتوح يعيد نفس المشهد يوميًا منذ قرون.
 
في هذا المكان وقعت المأساة قبل عشر سنوات، عندما استهدف الإرهاب مطعم "أرغانة". حضر الملك محمد السادس، عاين المكان، طمأن الناس، وأعلن إعادة بناء المطعم. كانت صدمة طالت مراكش وجرحت طموحاتها، لكن عزيمة المغاربة انتصرت على الكراهية والتطرف.
 
وصلت الطنجية، وأزال النادل عنها غلافًا من ورق سميك، ثم بسمل وحمد، وابتسم، وقدّم لنا طبقًا شهيًا بكل معنى الكلمة.
 
في مراكش... أشعر أني مغربي في الأعماق.